يبدو حي منشية ناصر لأول وهلة كتجمع عشوائي تسوده الفوضى من الناس والمباني والأزقة الضيقة والسيارات والنفايات والروائح الحمضية الحادة. وتبرز وسطه أبراج سكنية تطل على متاهة من الشوارع المتعرجة، وعندما تصعد الريح، يصبح الهواء مشبعاً بغبار أسود رطب، بينما تحوم أسراب الذباب فوق بقايا الفضلات.
نحن على مشارف وسط القاهرة، في ظل جبل المقطم، حيث يعمل ويعيش نحو 70,000 شخص بين مكبات النفايات التي تنقلها البلدية من المدينة التي يبلغ عدد سكانها نحو 12 مليون شخص. ويعمل جامعو القمامة، أو كما يعرفون بالزبالون، في جمع وفرز وإعادة تدوير نحو ثلثي الناتج اليومي من نفايات القاهرة الكبرى، والتي تبلغ نحو 10,000 طن. وأكثر من ذلك، فإن سكان 'حي الزبالين'، كما يسميه الناس، يحققون معدلات إعادة تدوير قد تحسدهم عليها شركات إدارة النفايات في جميع أنحاء العالم.
يوضح عزت نعيم، نقيب جامعي القمامة في المنطقة، ذلك قائلاً: "يعمل الزبالون اليوم على إعادة تدوير نحو 85 بالمئة من النفايات التي يستقبلونها"، بالمقارنة، فإن هدف الاتحاد الأوروبي هو الوصول إلى معدل إعادة تدوير يبلغ 50 بالمئة فقط للنفايات المنزلية بحلول العام 2020.
ينحدر الزبالون من مزارعي الكفاف في صعيد مصر، الذين جاءوا إلى القاهرة في أربعينات القرن الماضي وبدأوا العمل بالتنسيق مع جامعي القمامة الموجودين حينها، والذين أتوا من محافظة الواحة الغربية.
يقول نعيم: "عندما قدمنا أول مرة إلى هنا، كان الواحيّة [أهل الواحات] هم من يجمعون الزبالة، فكانوا يخرجونها إلى ضواحي المدينة ثم يتركونها لتجف تحت أشعة الشمس قبل بيعها مرة أخرى للناس كوقود للنار".
لكن مع التدفق المفاجئ للصعايدة، سرعان ما بدأ الواحيّة بتعهيد المهاجرين الجدد مناطق محددة من القاهرة. وهي شراكة تجارية ما تزال قائمة حتى يومنا هذا، ويوضحها نعيم قائلاً: "هناك أسر تعمل في المناطق ذاتها منذ أكثر من 60 عاماً. على سبيل المثال، بدأ جدي بجمع الزبالة من منطقة حدائق القبة، وتابع والدي جمع الزبالة من القبة، وما يزال إخوتي حتى اليوم يجمعون الزبالة من القبة".
وبينما بقيت مسارات جمع القمامة ثابتة تقريباً، فإن الكفاءة التي لا تكاد تصدق للزبالين اليوم هي ثمرة للتطور المستمر في أساليبهم لجمع القمامة وفرزها وإعادة تدويرها. فقد استخدم الزبالون الأوائل النفايات العضوية كطعام لماشيتهم، وأهملوا البقية العظمى من النفايات غير العضوية التي كانوا يفضلون طمرها في مكبات الزبالة. لكن المشاريع الصغيرة والمتوسطة المحلية الناشئة وجدت فرصة تجارية غير مستغلة، فبدأت في ستينات القرن الماضي تتعامل مع الزبالين لشراء المواد غير العضوية مثل بقايا الورق والمعادن، حيث كانت تعالجها وتبيعها.
ولم يبدأ الزبالون بإعادة التدوير حتى العام 1984، حين أتاحت القروض الصغيرة، المقدمة بالتنسيق مع برنامج البنك الدولي، للزبالين الاستغناء عن الشركات الصغيرة والمتوسطة الخارجية. ومع المشورة والمساعدة التي قدمتها المنظمات المحلية غير الحكومية، دخل الزبالون مرحلة جديدة من إعادة التدوير بكفاءة عالية، ما تزال تتفوق على معظم المدن الأوروبية والأميركية حتى اليوم.