انظر في الأسفل
تعمل على الارتقاء بالقطاع غير الربحي في الشرق الأوسط إلى آفاق جديدة، سواء في مجال توفير التعليم أو محاربة الفقر أو غيرهما من المجالات.
في مجالس إدارة المؤسسات في أنحاء العالم، تظلّ المساواة بين الجنسين شعاراً أكثر منها حقيقة واقعة. فحتى بعد عقود من دخول المرأة مكان العمل، لم تصل سوى نسبة ضئيلة من النساء إلى قمة هرم القيادة المؤسسية. لكن على الأقل، يشهد القطاع غير الربحي تقلصاً تدريجياً لهذه الفجوة، إذ تشغل النساء نحو 40 بالمئة من مناصب القيادة في هذا القطاع، ما يجعله واحداً من ثلاثة قطاعات فقط على مستوى العالم اقتربت فيها المرأة من المساواة بالرجل في الرتب العليا، لتكون مثالاً يحتذى به لبقية القطاعات. تسارعت وتيرة توظيف الكفاءات النسائية في هذا القطاع تدريجياً منذ العام 2007، ما ساعد على رفع نسبة مشاركة المرأة في القوى العاملة للقطاع غير الربحي إلى 57 بالمئة.
لكن على الرغم من البصمات التي تضعها المرأة بشكل متعاظم في هذا الميدان، إلا أن بعض العوائق ما تزال قائمة، إذ وجدت إحدى الدراسات أن احتمال تولي امرأة منصب القيادة في مؤسسة غير ربحية ينخفض كلما زادت ميزانية تلك المؤسسة. ففي المجموعات ذات التمويل الكبير (تلك التي تبلغ ميزانياتها 10 ملايين دولار أو أكثر)، نجد المرأة تشغل منصب الرئيس التنفيذي في أقل من ثلثها. وحتى أولئك اللواتي ينجحن في الارتقاء إلى أعلى مراتب السلم الوظيفي، فإنهن يحصلن عادةً على أجر أقل في المتوسط عن نظرائهن الرجال.
وتؤكد ميساء جلبوط، الرئيس التنفيذي لمؤسسة عبدالله الغرير للتعليم في الإمارات العربية المتحدة، أن "التحديات التي نراها على المستوى العالمي تنعكس أيضاً هنا في المنطقة العربية. وعلى الرغم من أن الصورة الحالية ليست مثالية، إلا أن وصول المزيد من النساء إلى مناصب عليا يمكّنهن أيضاً من توظيف وتوجيه وترقية المزيد من النساء، ثم تبدأ دورة جديدة. ما يعني وجود أثر إيجابي متعاظم".
وبشكل عام، تحقق المرأة في منطقة الشرق الأوسط مكاسب ملحوظة. في الصفحات التالية، نسلّط الضوء على عدد من المنظمات غير الربحية الأكثر ديناميكية في المنطقة: من أول مؤسسة للتمويل الخيري للمشاريع إلى أكبر صندوق خاص للتعليم. تتولى النساء شؤون القيادة في جميع هذه المؤسسات كي تضيء درب التغيير الشامل، بما في ذلك دعم المشاريع الاجتماعية وتحفيز خلق فرص العمل في المجتمعات المهمشة، وهن لا يترددن في الابتكار وتحمل المخاطر.
وتتصدى هذه المؤسسات لبعض أصعب المعضلات الاجتماعية في المنطقة. ففي قطاع كان حتى وقت قريب مرادفاً للجمعيات الخيرية، فإن تلك النسوة يحملن راية التحوّل نحو نموذج العمل الخيري الاستراتيجي الذي يركز على النتائج الملموسة. وهذا بحد ذاته جدير بالاحتفاء والتقدير على الرغم من الصعوبات والعقبات.
معاً من أجل التغيير الإيجابي
نورا سليم هي المديرة التنفيذية لمؤسسة ساويرس للتنمية الاجتماعية، التي تعمل على مساعدة أفقر المجتمعات في مصر وتمكينها ودعم التنمية الشاملة.
حين غادرت نورا سليم القطاع الخاص قبل ثلاث سنوات لتترأس واحدة من أعرق المؤسسات الخيرية العائلية في مصر، لم يُجمع من حولها على حُسن تلك الخطوة لمستقبلها. وتقول نورا عن ذلك مبتسمةً: "كان رأي البعض أن انضمامي للمؤسسة هو خطوة كبيرة للوراء في مسيرتي المهنية، بينما كنت أراها فرصة نادرة لتولي دفّة القيادة، إذ نادراً ما تحصل النساء في مصر، وخصوصاً الشابات، على مثل هذه الفرص".
تُشرف نورا سليم، بموجب منصبها كمدير تنفيذي لمؤسسة ساويرس للتنمية الاجتماعية، على مؤسسة تتمثل رسالتها بالجرأة في الاستثمار الهادف إلى التغيير المستدام. تعمل مؤسسة ساويرس لمكافحة الفقر في أنحاء مصر، حيث يعيش نحو نصف السكان تحت خط الفقر أو بجواره. كما تسعى لخلق فرص العمل، وتحسين جودة التعليم، ومنح المصريين المهمشين فرصة للنجاح. وتستثمر المؤسسة ما يزيد عن 150 مليون جنيه مصري (8.4 مليون دولار) سنوياً في برامج التنمية الاجتماعية، يتم تخصيص أكثر من ثلثيها لمساعدة أفقر المجتمعات في مصر.
وتوضح نورا ذلك قائلة: "نحن نعمل مع أفقر الفقراء الذين يعيشون في قاعدة الهرم، وجوهر عملنا هو التمكين الاقتصادي وما يتبعه من منافع غير مباشرة، إذ أننا نؤمن بالتنمية المستدامة، وهذا ما نطمح إليه".
وبطبيعة عمل هذه المؤسسة التي تقدم المنح المالية، فإن ذلك يترجم إلى تمويل للمنظمات والمبادرات التي تتعامل مع مختلف جوانب عدم المساواة. وتشتمل محفظة مؤسسة ساويرس للتنمية الاجتماعية على ذراع للقروض الصغيرة تؤدي أعمالها من خلال شركاء من المنظمات غير الحكومية وذلك لمساعدة الفئات الضعيفة والمحرومة على بدء أعمال تجارية صغيرة أو توسيعها، وعلى مشاريع رعاية صحية لمساعدة الفقراء، فضلاً عن برامج تدريبية لتوجيه الشباب المصري وتحسين قابليته للتوظيف، والقيام باستثمارات مجتمعية متنوعة منها افتتاح المدارس وتوفير الإسكان والرعاية على المدى البعيد للأطفال المشردين.
ونظراً لأن نموذج عمل مؤسسة ساويرس للتنمية الاجتماعية يعتمد على الشركاء المنفذين، فإن تقديم الأموال غالباً ما يقترن بتوفير الدعم لتطوير مهارات المنظمات غير الربحية المحلية وتعزيز أثرها، إذ يتم تدريب الحاصلين على المنح في مجالات التخطيط الاستراتيجي والتمويل وتتبع البيانات وتقييمها وغيرها من الممارسات، وذلك سعياً لبناء قطاع غير ربحي يتصف بالذكاء والاستقرار.
وعن ذلك تقول نورا: "لطالما كان من أهدافنا الأساسية أن نرتقي بمستوى المهنية ليس في مؤسستنا فحسب، بل في عموم قطاع العمل الخيري في مصر". وتقدّر نورا وجود أكثر من 40 ألف منظمة غير حكومية تعمل ميدانياً في مصر، وتشمل كامل الطيف من المجموعات الشعبية الصغيرة إلى المنظمات الناضجة التي تركز على الأثر حيث تقول: "نعمل كجهة مانحة عن كثب مع المستفيدين ونحرص على تقديم دعم مخصص يناسب احتياجاتهم".
وفي بعض الأحيان، يعني ذلك استكشاف أشياء جديدة. فقد جربت مؤسسة ساويرس نماذج مبتكرة للتنمية، ودعمت المبادرات الواعدة وساعدت على توسيع نطاقها. في صعيد مصر، الذي يجسد المعاناة التي يعيشها أهل الريف الفقراء، كانت المؤسسة شريكاً منذ مرحلة مبكرة في مشروع بدأ في العام 2012 لتجريب وتطبيق مقاربات تدخّل جديدة لتحسين الإنتاجية الزراعية، وذلك من خلال استخدام طرق جديدة أكثر فاعلية في الزراعة. كما تهدف "مبادرة التنمية الزراعية المستدامة" هذه التي تدار من قبل الشبكة المصرية للتنمية المتكاملة، والتي تجمع عدة شركاء، إلى تقليص عدد العمّال الزراعيين من ذوي الأجور المتدنية عبر توليد فرص عمل خارج الحقول. ويشمل ذلك المزارع السمكية المتكاملة وإعادة تدوير النفايات الزراعية وشبكات تجهيز الألبان، لمساعدة العمّال على الاستفادة من مصادر جديدة للدخل وتدريبهم على ممارسات الزراعة المستدامة.
"إن جوهر عملنا هو التمكين الاقتصادي وما يتبعه من منافع غير مباشرة".
وفي السنوات الخمس الأولى للمشروع، تمّ تدريب أكثر من 2,500 شخص على أساليب زراعة جديدة كي يعمل هؤلاء على نشر تلك التقنيات وتحفيز تبنّيها في قراهم، وبالتالي توفير مئات فرص العمل. ومن شواهد نجاح المبادرة أن الحكومة ومنظمات غير حكومية أخرى تبنت نماذج عملها وطبقتها على نطاق أوسع.
وتقول نورا سليم: "هذا النمط من التعاون بالغ الأهمية، إذ نرى أن العديد من الجهات الفاعلة في مجال التنمية تستهدف ذات الأولويات، مثل بطالة الشباب والرعاية الصحية والفقر، ما يعني وجود فرصة لتحقيق أثر أكبر من خلال تنسيق الجهود والاستفادة من نقاط القوة لدى كل مشارك. كما أن الشراكات مع الحكومة يمكن أن تكون رائعة، خاصة أن مشاريعها من أكثر المشاريع التي تطبق على نطاق واسع".
على سبيل المثال، انضمت مؤسسة ساويرس للتنمية الاجتماعية إلى وزارة الصحة وغيرها من الجهات الفاعلة في حملة واسعة لمكافحة انتشار التهاب الكبد "C" بين جامعي القمامة في أفقر أحياء العاصمة القاهرة، إذ تعاني مصر من أعلى معدل انتشار عالمي لهذا المرض الذي ينتقل عبر الدم، والذي يمكن أن يؤدي إلى فشل الكبد وإصابته بالسرطان، خصوصاً في المناطق الريفية الفقيرة التي تعتبر الأكثر تضرراً. ويعد جامعو القمامة الأكثر عرضة لخطر العدوى بفيروس التهاب الكبد "C". بدأ المشروع بتنظيم حملة توعية واسعة النطاق شملت زيارات منزلية في منطقة منشية ناصر بالقاهرة لتثقيف الأسر بأساليب الوقاية من المرض، وإجراء فحوصات لنحو 10 آلاف شخص للكشف عن الإصابات. كما تمّ الوصول إلى آلاف الأشخاص الآخرين من خلال ندوات تهدف إلى خفض معدلات العدوى من خلال تحسين المعرفة وتحفيز تغييرات سلوكية دائمة. وترى نورا في المشروع مثالاً جيداً للعمل الخيري المستدام الذي ترغب مؤسستها بتحقيقه.
تسعى المؤسسة في غالبية أعمالها إلى تحقيق الأهداف البعيدة المدى، إذ لا يمكن حلّ المشاكل الاجتماعية المستعصية مثل مشكلة بطالة الشباب في مصر بين عشية وضحاها. ولذلك فقد اشتمل نهج مؤسسة ساويرس للتنمية الاجتماعية على تخطيط احتياجات سوق العمل، ومن ثمّ تكييف برامج التعليم لديها لمواءمة تلك الاحتياجات. ونتيجة لذلك، أصبح لدى المؤسسة معهد للتمريض وآخر للضيافة، وكلاهما قطاعان يحتاجان لقوة عاملة أكبر، من أجل تمكين الطلاب وتزويدهم بالمهارات اللازمة وتحسين وضعهم في مكان العمل. وقد لاقى هذا النهج نجاحاً حتى الآن، فقد تم توظيف جميع المتخرجين من أول دفعتين للطلاب في معهد التمريض.
وتقول نورا: "كان هدفنا في الحقيقة هو تسليط الضوء على نماذج تعليم فني يمكن أن تثمر عن فرص توظيف جيدة بأجور أفضل، لاسيما أن الناس في مصر ينظرون إلى التعليم الفني على أنه أقل شأناً، ما يدفع العديد من الشباب لمحاولة الالتحاق بالجامعات. وقد أدّى هذا إلى وجود عدد كبير من الخريجين الجامعيين الذين لا يمتلكون بالضرورة المهارات التي يطلبها أصحاب العمل".
تم إنشاء مؤسسة ساويرس للتنمية الاجتماعية في العام 2001 بهبة من عائلة ساويرس، وما تزال حتى اليوم تعتمد على هذه الهبة إلى جانب التبرعات من أجل تمويل أعمالها. وتمتاز المؤسسة بتحديد سقف للنفقات العامة عند نسبة 10 بالمئة فقط من مجمل التمويل، حيث تمثّل هذه القاعدة جزءاً من عهد المؤسسة بأن تكون رائدة في مجال الشفافية المالية.
وعن ذلك تقول نورا: "لا أرى أي سبب يمنع المؤسسات في العالم العربي من العمل بنهج مؤسسة بيل وميليندا غيتس. ولا أقصد هنا مستوى التمويل، بل أفضل الممارسات في الحوكمة والشفافية والأثر، إذ أن عدم وجود معايير [ملزمة] هو من أكثر الأمور التي تسبب الإرباك في هذا القطاع، ولا توجد متطلبات تنظيمية تفرض على المؤسسات الإبلاغ عن إنفاقها".
لا شك أن إصلاح هذه المسألة سيساهم في تحسين سمعة القطاع غير الربحي في مصر، وهو ما سيترك آثاراً إيجابية كبيرة، خاصةً بالنسبة للمؤسسات التي تسعى للحصول على الدعم المالي. وتقول نورا: "ألاحظُ اليوم تنامي المشاريع الخيرية الخاصة في مصر. وإذا علم المتبرعون بوجود منظمات جديرة بالثقة وتعمل بكفاءة، فقد يختارون توجيه أموالهم إليها. كما أعتقد أننا سنرى تصاعد اهتمام الكفاءات الشابة بهذا القطاع لأنهم يرون اليوم منظمات تعمل بمهنية عالية ويمكن أن تقدم لهم فرصاً جيدة للتطور الوظيفي".
من جانبها، تركّز مؤسسة ساويرس للتنمية الاجتماعية بشكل كبير على الأثر. ففي العام 2015، تعاونت مع مختبر عبد اللطيف جميل لمكافحة الفقر، وهو شبكة بحوث عالمية، لقياس أثر عملها الرئيسي على المدى الطويل. ومن المقرر أن يتم نشر نتائج دراستين بحثيتين (وفق المعيار الذهبي في الأبحاث) في أوائل العام 2019.
وتختتم نورا حديثها بالقول: "نحن نأمل أن يُظهر ذلك بالفعل أثر الأدوات المختلفة التي نستخدمها. على سبيل المثال، تفترض نظريتنا أن التمكين الاقتصادي يؤدي إلى تحسين تمكين المرأة من حيث حقوقها المالية والاجتماعية والسياسية. ولكننا ننتظر نتائج الأبحاث للتحقق من ذلك".
صنع قادة المستقبل
ميساء جلبوط هي الرئيس التنفيذي لمؤسسة عبدالله الغرير للتعليم، التي تقدم المنح الدراسية والتدريب على المهارات وغيرهما من أوجه الدعم لمساعدة الشباب العربي الواعد الذي يعاني من نقص الفرص لتحقيق النجاح.
لا يوجد حل سحريّ لعدم المساواة الاقتصادية والاجتماعية. لكن إتاحة التعليم على نطاق واسع يُعد من أكثر وسائل التدخل فعالية. وتقول ميساء جلبوط، الرئيس التنفيذي لمؤسسة عبدالله الغرير للتعليم، ومقرها دولة الإمارات: "التعليم هو الشيء الوحيد الذي يمكن أن تعطيه للشخص ولا يمكن أن يُسلَب منه. إنه المفتاح لفرص عمل أفضل وحياة أفضل وتنمية مستدامة أفضل. ولا يضاهيه أي شيء آخر من حيث العائد الاقتصادي".
مع أن الاستثمار في التعليم ليس بالأمر الجديد، لكن مؤسسة عبدالله الغرير للتعليم تمتاز بجرأتها وضخامة جهودها، إذ تضعها مخصصاتها التي تبلغ 1.1 مليار دولار بين أكبر المؤسسات الخيرية التعليمية في العالم. وتتضمن تفاصيل خطة المؤسسة مساعدة 15 ألف شخص من الشباب والشابات العرب من الفئات المجتمعية المحرومة للدخول إلى جامعات رائدة بحلول العام 2025، ومساعدة الآلاف غيرهم من خلال برامج تعليمية مبتكرة عبر الإنترنت.
ويتجاوز نهج المؤسسة المساعدات المالية: فالباحثون يستفيدون من التدريب العملي، وتطوير المهارات العامة، والتوجيه والإرشاد. وفي هذه المنطقة التي تعاني من معدلات عالية لبطالة الشباب على مستوى العالم، فإن هذه المكاسب هي الأكبر أثراً. والغاية الكبرى للمؤسسة هي تغيير مسار حياة هؤلاء الطلاب، وبالتالي، كتابة قصة جديدة لمستقبل الشرق الأوسط.
وتقول ميساء جلبوط: "ما يزال التعليم العالي الذي يتميز بالجودة مقتصراً إلى حد كبير على العائلات الميسورة، بينما نجد أن 35 بالمئة من الطلاب المستفيدين من مؤسسة عبدالله الغرير هم أول من يدخل الجامعة في أسرهم. فالعديد من الشباب الموهوبين والمتميزين والطموحين يأتون من الأسر الأكثر حرماناً".
ومنذ إطلاقها قبل عامين وحتى اليوم، ساعدت مؤسسة عبدالله الغرير للتعليم نحو 800 طالب من 18 دولة عربية، وأقامت 16 شراكة مع جامعات في عشر دول. ونظراً للطلب الهائل على المنح الدراسية، إذ سجل أكثر من 72 ألف طالب أنفسهم في بوابتها الإلكترونية، قررت مؤسسة عبدالله الغرير للتعليم مضاعفة عدد المنح الدراسية التي تقدمها هذا العام لتصل إلى 1,500 منحة.
وقد استهدفت المؤسسة أيضاً سدّ الفجوة في توفير التعليم لليافعين والشباب، وهي شريحة تجتذب القليل جداً من الإنفاق العالمي على التعليم. وفي يونيو، تعهد عبد العزيز الغرير، رئيس مجلس إدارة مؤسسة عبدالله الغرير للتعليم، بتقديم مبلغ 27.2 مليون دولار على مدى ثلاث سنوات لزيادة فرص التعليم الثانوي والمهني والعالي لنحو 15 ألف لاجئ فلسطيني وسوري خارج مقاعد الدراسة، ومساعدتهم على إيجاد فرص التوظيف. وقد أعلن الصندوق الذي ستديره مؤسسة عبدالله الغرير للتعليم، عن دورة منح أولية يبلغ مجموعها 12.3 مليون دولار في شهر سبتمبر، حيث ستكون وكالة الأمم المتحدة للطفولة (اليونيسيف) والهلال الأحمر الإماراتي ومشروع توحيد الشباب اللبناني من بين المنظمات المستفيدة منها.
وتشرح ميساء قائلة: "لقد أدركنا أنه لا يمكننا الاكتفاء بتحقيق مكاسب صغيرة، بل يجب أن نكون أكثر طموحاً وجرأة. فهناك أجيال من شباب هذه المنطقة معرضون للتهميش إذا لم يحصلوا على الدعم اللازم. ونحن لا نريد أن نخذل هؤلاء الناشئة".
لكن مؤسسة عبدالله الغرير للتعليم لا تستطيع وحدها تحقيق ذلك. لذا فإنها تركز بشكل كبير على النفوذ، سواء من خلال العثور على شركاء أو بناء القدرات في قطاع التعليم أو تسخير التقنية لتوسيع دائرة المستفيدين.
"كلنا يريد رؤية المزيد من العمل الخيري، لكن نهج هذا العمل وغايته لا تقل أهمية عن حجمه".
وعلى نطاق أوسع، تأمل مؤسسة عبدالله الغرير للتعليم في الوصول إلى نموذج من العطاء الاستراتيجي المتمحور حول الأثر، والذي يمكنه، في حال تبنيه على نطاق واسع في الشرق الأوسط، أن يساهم في إطلاق التحوّل على مستوى المنطقة من التبرعات الخيرية التقليدية إلى العطاء الاستراتيجي البنّاء والمستدام. فهذا النمط من العطاء يستخدم العمل الخيري كمختبر للتطوير، إذ يتم استكشاف الابتكارات وتمويلها واختبارها في الأماكن التي تتجنبها الحكومات والشركات، قبل تطويرها على نطاق واسع. والفكرة، كما تقول ميساء، هي تحسين طريقة العمل الخيري، وتحقيق تقدم حقيقي على صعيد معالجة أكبر القضايا التي تواجه المنطقة.
وتوضح ميساء قائلة: "توجد فرصة مهمة لتغيير طريقة عمل الخير، بشكل يمكّننا من تحقيق نتائج تماثل ما نراه على مستوى العالم. فالأعمال الخيرية الخاصة تسمح لنا بالاستثمار أكثر في الابتكار، وتحمّل قدر أكبر من المخاطرة، ومعالجة الفجوات وجمع شركاء متنوعين للعمل معاً من أجل الخير على نطاق أوسع".
وترى ميساء أن العطاء في العالم العربي يقف على أعتاب هذا التغيير: "لقد تحوّل العمل الخيري من فعل شخصي خاص يقتصر على الدوافع الدينية، إلى لاعب رئيسي في التصدي للتحديات الاجتماعية والاقتصادية".
وبالنسبة للقطاع غير الربحي على نطاق أوسع، قد يصبح هذا التوجه نحو العطاء الذي يركز على النتائج بمثابة القوة الدافعة للارتقاء بمستوى المهنية فيه. كما ستكون هناك حاجة إلى معايير أعلى إذا كان هذا القطاع يريد منافسة قطاع الشركات لتوظيف واستبقاء الموهوبين من هذا الجيل.
وتضيف ميساء: "نحن نعمل بشكل مباشر على جبهات أصعب المشاكل التي تواجهها المنطقة، لكنّ المشهد العام ليس مثالياً. فنحن بحاجة للاستثمار في تطوير مستوى المهارات والمهنية في هذا القطاع. وكلنا يريد رؤية المزيد من العمل الخيري، لكن نهج هذا العمل وغايته لا تقل أهمية عن حجمه".
كما تؤكد ميساء على أن المرأة العربية كانت دائماً في طليعة التغيير الاجتماعي، وهي ثقافة امتدت لتثمر اليوم عن حضور قوي للمرأة في القطاع غير الربحي. والتحدي الأكثر إلحاحاً الآن هو فتح أماكن العمل في جميع الصناعات للسماح للنساء بالقيادة والنجاح.
"نحن بحاجة لتعزيز حضور المرأة في مواقع المسؤولية في كل قطاع. وإذا أراد القطاع الخاص لعب دور أكبر في الأعمال الخيرية، فإنه يحتاج لمزيد من النساء في تلك المناصب المؤثرة. كما أننا بحاجة للمزيد من رائدات الأعمال الناجحات على المستوى المالي، إذ أن ترك أثر إيجابي ليس حكراً على القطاع غير الربحي، بل يمكن صنع الفارق انطلاقاً من أي قطاع".
الاستثمار من أجل النمو
ميرنا عطا الله هي المديرة التنفيذية لمؤسسة الفنار للعمل الخيري الاستثماري، التي تعمل من خلال مشاريع اجتماعية مبتكرة لتحسين أوضاع الفئات المجتمعية المتدنية الدخل.
ربما لا يكون البطّ أول حل يتبادر للأذهان لمشكلة الأرامل العاطلات عن العمل في مصر. لكنه، بالنسبة لأول مؤسسة للعمل الخيري الاستثماري في العالم العربي، يمكن أن يشكل جزءاً من العلاج. إنّ نموذج تربية البط بأعداد كبيرة، والذي يجري اختباره حالياً من قبل مؤسسة تمكين الأرامل في شمال البلاد، هو واحد من الاستثمارات التي دعمتها مؤسسة الفنار، ومقرها لندن، بهدف مساعدة الناس الذين يعيشون في قاعدة الهرم الاقتصادي على الخروج من دائرة الفقر.
وتشرح المديرة التنفيذية للمؤسسة ميرنا عطا الله ذلك فتقول: "تبيّن خطة الأعمال أنّ المصريين يستهلكون 85 مليون بطة سنوياً، لكنهم يربون 11 مليون بطة منها فقط، ويتم استيراد الباقي. لذلك ساعدنا في إنشاء أول سلسلة قيمة لتربية البطّ في البلاد، بإدارة الأرامل، لاستغلال هذه الفجوة في السوق".
وتضيف ميرنا: "تتألف السلسلة من عدد من المشاريع الصغيرة. وهدف كل منها هو تحقيق ربح كافٍ لإعالة تلك النسوة وأسرهن، إذ قدمنا مساعدات تمويل لمحفظة القروض الصغرى لهذه المؤسسة كي تستطيع تقديم التدريب اللازم للنساء من أجل إعادة تدوير قروضهن وتغطية التكاليف ثم تحسين الدخل".
هذا هو باختصار نموذج عمل مؤسسة الفنار: فهي تدعم المشاريع الاجتماعية القاعدية التي تجمع بين إمكانية التوسع والجدوى المالية والقدرة على إحداث تغيير اجتماعي مستدام في العالم العربي. وتشمل محفظة المؤسسة 18 مبادرة في أنحاء مصر ولبنان، مع التركيز على الاستثمارات التي تساعد النساء والأطفال، وتسعى لدعم المؤسسات الصغيرة كي تنمو إلى "كيانات مؤهلة للاستثمار ذي الأثر الاجتماعي".
وتوضح ميرنا قائلة: "إذا كانت المؤسسة الناشئة تبحث عن التمويل فقط ولا شيء غيره، فلسنا الشريك الأفضل لهم".
انطلقت مؤسسة الفنار في العام 2004، لكنها ما تزال بين عدد قليل جداً من مؤسسات التمويل الخيري للمشاريع الناشئة في المنطقة، حيث تسخّر ميزانيتها السنوية البالغة 1.68 مليون دولار للعثور على مشاريع ذات أثر اجتماعي ومساعدتها على التوسع.
ويركز هذا النوع من العطاء على النتائج، لذلك فإن تقديم التمويل يترافق مع مكالمات وزيارات دورية ودعم منتظم من موظف مكلّف بالمتابعة في مؤسسة الفنار. وتوضح ميرنا قائلة: "تستخدم المؤسسة التطبيقات الرقمية لتشجيع المستفيدين على تتبع بياناتهم والاستجابة لها في الزمن الحقيقي، بدلاً من معاينتها في تقارير فصلية للمانحين، حيث تساعد هذه البيانات في توجيه تحسين الأداء وتنمية الأعمال".
وتقول مؤسسة الفنار أن المشاريع التي تدعمها تؤثر في المتوسط على حياة أشخاص أكثر بنسبة 39 بالمئة خلال فترة الاستثمار فيها، كما تولد ذاتياً دخلاً أكبر بنسبة 36 بالمئة على أساس سنوي.
وتركّز المؤسسة على المنظور البعيد المدى في استثماراتها، حيث تبدأ مع عام تجريبي للتمويل يخدم أيضاً كفترة أطول لإجراءات العناية الواجبة. وإذا أثبتت الشراكة ملاءمتها، تقدّم الفنار تمويلاً لمدة ثلاث سنوات إضافية. وهذا يريح المؤسسات المستفيدة من ضغوط الموافقات السنوية على المنح، ويسمح لها بالتركيز بدلاً من ذلك على أثرها ونتائجها.
وتضيف ميرنا: "أعتقد أنه من غير المنصف أن نطالب مؤسسة ما بالتفكير البعيد المدى وتحمّل مخاطر جريئة إذا كنا نخطط لسحب دعمها في العام التالي".
كما ترى ميرنا أن العمل الخيري الاستثماري يكمل دور المعونات التقليدية عن طريق فتح السوق أمام المجتمعات المتدنية الدخل. وفي أنحاء الشرق الأوسط، من المناطق الفقيرة في مصر إلى مخيمات اللاجئين في لبنان، تسمح هذه الآلية بوضع السكان الفقراء كمستخدمين نهائيين بدلاً من أن يكونوا مستفيدين، ما يدعم نموذجاً أكثر استدامة للتنمية.
وهي تصف ذلك بأنه "تحول في العقلية، ففي العديد من الأماكن المهمشة تزدهر الأسواق: إذ أن الفقراء هم أيضاً عملاء للخدمات وتجب معاملتهم وتقديرهم على هذا الأساس".
كما يساعد هذا النهج في معالجة مسألة تراجع اهتمام المانحين لأنهم يستطيعون تتبع أثر تبرعاتهم. "إذ يمكنهم رؤية الأثر المتزايد لأموالهم على المشهد العام، وكيف أنهم يساهمون في شيء عظيم. إن عمل الخير يحظى بمكانة كبيرة في منطقتنا وثقافتنا، لكن الهدف هو تطبيقه بحيث يذهب أثره أبعد من أي منحة أو تبرع منفرد"، كما تقول ميرنا.
ومن الأمثلة على ذلك مبادرة "سفرة"، وهي شركة متخصصة بتقديم الطعام في بيروت، حيث كانت الشركة من بنات أفكار مريم شعار، اللاجئة الفلسطينية التي تدير جمعية برنامج المرأة في مخيم برج البراجنة في لبنان. توفر هذه المنظمة غير الحكومية التعليم والتدريب على المهارات، كما تقدم القروض الصغيرة للنساء في المخيمات، حيث لاحظت مريم وجود فرصة لإطلاق وحدة لتقديم الطعام من أجل دعم أنشطة المنظمة فضلاً عن تزويد النساء بمصدر للدخل. وبدعمٍ من مؤسسة الفنار، تم إطلاق "سفرة" وهي كلمة تستخدم في اللغة الدارجة بمعنى "مائدة الطعام". وبعد أربعة أعوام وحملة تمويل جماعي ناجحة، أصبحت "سفرة" شركة طعام ناجحة ومزدهرة لديها شاحنة طعام تمنح اللاجئات وسيلة لبناء الثقة بالنفس وتطوير المهارات وكسب الأرباح. وتدعم الفنار الآن مريم شعار وجمعية برنامج المرأة في تشغيل مركز لرعاية الأطفال في مخيم برج البراجنة، كي تمنح فرص التوظيف للمزيد من النساء.
وتقول ميرنا: "ندعم حالياً 18 استثماراً من بينها 11 مبادرة تقودها النساء. ومن الجوانب التي نهتم بها في شراكاتنا وجود رئيس تنفيذي يستحق الدعم، وقد وجدنا أن المرأة تمتاز بالعزيمة والإصرار على تحقيق النجاح لمبادراتهن، مهما كانت العوائق التي تقف في طريقهن. كما تشير بياناتنا إلى معدل يقارب 100 بالمئة لإعادة تسديد القروض الصغيرة التي تمنح للنساء".
وتحمل هذه الاستثمارات قيمة مضافة. فمن خلال التمويل والتدريب الإداري والمنافع التي تُقدم للمستفيدين، تؤمن ميرنا عطا الله بأن مؤسسة الفنار تساعد النساء على تجاوز الحواجز الثقافية والاقتصادية. فتقول: "نحن نعمل على تمكين جيل جديد من قادة الأعمال، ممن يهتمون بالفعل بتغيير المجتمع إلى الأفضل. سيكون هؤلاء قدوة للآخرين وسيثبتون بأن الأعمال يمكن أن تكون خيّرة ومستدامة".
أفعال تقودها الأبحاث
الدكتورة ناتاشا ريدج هي المديرة التنفيذية لمؤسسة الشيخ سعود بن صقر القاسمي لبحوث السياسة العامة، المكلفة بدعم التنمية والتقدم في إمارة رأس الخيمة والإمارات العربية المتحدة بشكل عام.
في دولة الإمارات العربية المتحدة، يرتبط مستوى النجاح الدراسي بالوضع المالي للأهل. كانت تلك هي النتيجة الأولية لورقة البحث التي تم نشرها في سبتمبر، وأظهرت أن الإماراتيين من شريحة الدخل المنخفض يتأخرون بشكل كبير عن أقرانهم الأثرياء من جهة المستوى في الرياضيات والعلوم والقراءة. وأشارت الدراسة إلى أن أسوأ المتأثرين هم الذكور الأقل دخلاً، واقترحت توجيه استثمارات لدعم هؤلاء ومنع تسربهم خارج النظام المدرسي.
صدرت هذه الدراسة عن مؤسسة الشيخ سعود بن صقر القاسمي لبحوث السياسة العامة، وهي مؤسسة بحثية مقرها رأس الخيمة، ورسالتها دعم التقدّم الموجّه بالأدلة على مستوى الإمارة والدولة.
وتعتمد هذه المؤسسة نهجاً مؤلفاً من شقّين: أولهما هو العمل لتقديم أبحاث حديثة عن مسائل السياسة العامة ذات الأهمية بالنسبة للتنمية في إمارة رأس الخيمة، وغالباً بالتعاون مع باحثين وجامعات وشركاء خارجيين. ثم يتم استنباط النتائج للمساعدة في اقتراح وتوجيه القرارات المتعلقة بالسياسات والتخطيط، والانتقال من البحث إلى العمل من أجل المصلحة العامة.
وتوضح ناتاشا ريدج، المديرة التنفيذية للمؤسسة قائلة: "هدفنا هو مساعدة الإمارات على الوصول إلى أقصى قدراتها التنافسية. ولذلك فإن التحدي الرئيسي يكمن في وضع نتائج هذه الأبحاث في أيدي صناع القرار كي يتم التصرف على أساسها".
تطمح الخطط الوطنية في دولة الإمارات لتحويلها إلى مركز عالمي للأعمال والابتكار بحلول العام 2021، مدعومةً باقتصاد قوي ومتنوع يأخذ بزمامه قادة إماراتيون لامعون. وتقول ناتاشا: "إن تحقيق ذلك يتطلب إعادة ضبط النظام المدرسي كي يستطيع توليد المواهب التي يحتاجها مثل هذا الاقتصاد. وكان ذلك من غايات إطلاق المؤسسة في العام 2009 من قبل الشيخ سعود بن صقر آل القاسمي، حاكم رأس الخيمة.
وتوضح ناتاشا قائلة: "إن التزامنا الرئيسي هو تحسين جودة التعليم، لاسيما في المدارس الحكومية. ففي التصنيف العالمي، سجّلت دولة الإمارات تقييماً أدنى من متوسط منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية في مواضيع العلوم والقراءة والرياضيات. بينما يطمح سمو حاكم رأس الخيمة إلى تحسين قدرات الطلاب الإماراتيين حتى يتمكنوا من تولي مناصب قيادية في المستقبل من خلال التعليم الجيد والتطوير الكامل لإمكاناتهم".
ويتطلب تغيير وضع التعليم للأفضل نهجاً متعدد الجوانب، حيث تقدّم المؤسسة خدمات من بينها دورات لتدريب المعلمين وبرامج تبادل ومنح لتحسين المدارس وفرص تعليم مباشر للشباب المعرضين لخطر الرسوب أو المحرومين، فضلاً عن تقديم المنح الدراسية للطلاب الموهوبين. وقد أكمل نحو 1,500 معلّم، يمثلون تقريباً نصف الكادر التعليمي للمدارس العامة في إمارة رأس الخيمة، دورة واحدة على الأقل من دورات التطوير المهني المجانية التي تستمر لمدة 10 أسابيع.
وتتحدث ناتاشا عن ذلك قائلةً: "نحن لا نخبر المدرسين بما يحتاجون إليه، بل نقدم لهم استبياناً في بداية كل عام لفهم الدورات التي يطلبونها ثم نستجيب لتلك الاحتياجات. كما أننا نعمل أيضاً مع وزارة التربية لدعم برامجها".
تعقد هذه الدورات خارج ساعات العمل، ويتم تتبع المعلمين المشاركين فيها لتقييم أثر مهاراتهم الجديدة في الفصول الدراسية. كما يتوافر الدعم من الأقران عبر شبكة مدرسية أنشأتها المؤسسة وتضم 1,520 معلماً. وتضيف ناتاشا: "لقد لمسنا تغييراً حقيقياً في نظرة المجتمع للمعلمين كمهنيين محترفين".
وتعمل مؤسسة الشيخ سعود بن صقر القاسمي أيضاً للوصول إلى الفئات الضعيفة والمهددة، مثل الطلاب الذكور المهددين بالطرد من المدرسة والشباب الجانحين من نزلاء المؤسسات العقابية، إذ شارك 124 سجيناً في دوراتها التنموية خلال العام الماضي. وفي مدرسة ثانوية محلية، نجحت تجربة لإعادة إشراك الذكور في التعلّم برفع معدلات الحضور إلى نحو 100 بالمئة، بعدما كانت سابقاً نحو 40 بالمئة فقط من المشاركين.
وتفيد ناتاشا بقولها: "عدد من هؤلاء الفتيان كانوا على وشك الطرد النهائي من المدرسة، لكنهم أصبحوا الآن طلاباً مثاليين بعدما أدركوا الغاية من المدرسة والتعليم".
وعلى مدى السنوات الماضية، توسّع نطاق تركيز المؤسسة إلى مخرجات اجتماعية أخرى غير التعليم، مثل الصحة العامة ومشاركة المجتمع والثقافة والفنون. كما أنها تستخدم البحوث لاستكشاف الفجوات في البيئة الاجتماعية، ومعالجة القضايا الشائكة المحتملة، حيث بحثت في عدة مسائل مثل تأثير غياب الآباء العرب على النجاح الدراسي للأطفال، ومسائل أخرى قد تغفل المؤسسات الحكومية عن التدقيق فيها. وكانت تلك الورقة البحثية قد خلصت إلى وجود وفرة من الفرص للشباب الإماراتيين الموهوبين، مقابل ندرة في البرامج التي تستهدف البيئة والشباب المهددين، وغياب شبه تام للبرامج التي تلبي الاحتياجات المتزايدة للمسنين في دولة الإمارات.
وتقدم المؤسسة أيضاً منحاً لطلاب وطالبات الدكتوراه بشرط تنفيذ جزء من بحوثهم في إمارة رأس الخيمة أو دولة الإمارات. وقد ساعدت هذه الحلقة من إعادة الاستثمار على بناء ثروة من المعرفة في مواضيع متنوعة مثل سندات المشاريع ذات الأثر الاجتماعي والوقود الحيوي، في إمارة تغفل عنها عيون الباحثين الأجانب. وتقول ناتاشا: "هذه لمحة عن كيفية عمل مؤسسة القاسمي لتعظيم الأثر ودفع عجلة التنمية في الإمارة. فعندما حصلت على درجة الدكتوراه في العام 2007، كان من الصعب العثور على أي مقالات بحثية تتحدث عن التعليم في الإمارات العربية المتحدة. لكننا عملنا جاهدين لبناء قدرات الباحثين المحليين وتوليد مجموعة جيدة من الأبحاث".
"أحذّر من التركيز بشكل مفرط على المرأة فقط، إذ يجب علينا أيضاً أن نفكر في كيفية تعزيز مشاركة الرجل في مثل هذه البرامج".
هذا النموذج المستند على الأدلة يعني أيضاً أن المؤسسة تخرج أحياناً عن التفكير السائد في اتجاهات التنمية الاجتماعية. فعلى سبيل المثال، تتخذ ناتاشا موقفاً متشككاً إزاء الدور الذي يمكن أن يلعبه التمويل الخاص في تقديم مبادرات من أجل الصالح العام.
وتقول: "على الرغم من درايتنا الواسعة بالتمويل الخيري للمشاريع الناشئة والاستثمارات ذات الأثر الاجتماعي، لكنني أعتقد بضرورة الحذر في التعامل معها وعدم نسيان أن الفرس تجرّ العربة وليس العكس".
وبينما يميل الغرب إلى تصوير النساء والفتيات في العالم العربي على أنهن يفتقرن إلى الفرص، فإن ناتاشا ريدج تتحدث عن شكل آخر من الانحياز الجنسي. ففي معظم أنحاء الشرق الأوسط، تتفوق الإناث على الذكور في جميع مستويات التعليم، من المرحلة الابتدائية إلى الدراسات العليا، لكن العديد من المؤسسات غير الربحية في المنطقة ما تزال تعاني في العثور على تمويل لمبادرات تستهدف تطوير الشباب الذكور المحرومين".
وتضيف: "من الرائع أن نرى المرأة تقود المؤسسات غير الربحية في المنطقة نحو تنفيذ برامج حقيقية. وقد ساعد ذلك بالفعل في تحفيز تمويل البرامج المتعلقة بتطوير المرأة وتمكينها. لكنني أحذّر من التركيز بشكل مفرط على المرأة فقط، إذ يجب علينا أيضاً أن نفكر في كيفية تعزيز مشاركة الرجل في مثل هذه البرامج. فهذا من التحديات في هذه المنطقة، حيث نرى في كثير من الأحيان صورة سلبية عن الرجل، خصوصاً من الخارج".
وتعتبر الشمولية من السّمات التي تشترك فيها العديد من برامج المؤسسة، إذ تنظم مهرجاناً سنوياً للفنون الجميلة، يُعد بمثابة معرض جماهيري للفنانين الصاعدين، فضلاً عن صالة عرض مجانية في مقر المؤسسة.
كما يتم تنظيم فعاليات شهرية متنوعة من بينها دروس في الطيران والتجديف بين أشجار القرم في رأس الخيمة للمقيمين، ما يساعد على تعزيز الروابط بين فئات المجتمع في بلد تتجاوز فيه نسبة الوافدين إلى المواطنين الخمسة أضعاف. وتوضح ناتاشا أن "سمو الشيخ حاكم رأس الخيمة حريص على أن تكون الإمارة مجتمعاً متكاملاً يعتبرها الناس بلدهم بغض النظر عن أصلهم. ويتم تنظيم هذه الفعاليات كي تقرّب الناس من بعضهم البعض".
كما تحرص ناتاشا على توفير فرص تناغم الأفكار بين عالم الأعمال التجارية والقطاع غير الربحي، من أجل تعزيز أثر القطاع الثالث والمساعدة في جذب مواهب جديدة إليه.
وتقول: "نحن نشجع التقاء القطاعين معاً لأن ذلك يؤدي إلى تحسين كل منهما. كما أننا نريد رؤية المزيد من النساء في الشركات التجارية والمزيد من الرجال في القطاع غير الربحي، لأن ذلك يحقق توازناً أفضل، ونحن بحاجة إلى عقلية شمولية في كلا المجالين".
جيل جديد مـن أبطال الأعمال
الدكتورة إيمان بيبرس هي مؤسِّسة منظمة أشوكا العالم العربي ومديرتها الإقليمية، والمنظمة هي الذراع المحلي لشبكة عالمية من رواد الأعمال الاجتماعية وتعمل من أجل معالجة أكبر التحديات في المنطقة.
تعمل إيمان بيبرس في صناعة التغيير. وبصفتها المؤسس والمدير الإقليمي لمنظمة أشوكا العالم العربي، وهي الذراع المحلية لشبكة عالمية من رواد الأعمال الاجتماعية تضم أكثر من 3,500 شخص، فإن هدفها هو العثور على أو تطوير أشخاص لديهم أفكار وحوافز للتصدي لأكبر التحديات التي تواجه المنطقة العربية. ويبلغ عدد أعضاء الشبكة في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا 110 زملاء، بمن فيهم مهندس مصري يعمل على زيادة توفير المساكن المنخفضة التكلفة، ومبتكر فلسطيني يسخّر الزراعة المحمية لمساعدة اللاجئين على خفض اعتمادهم على المساعدات الغذائية، وغيرهما الكثيرون. وتقول إيمان: "نحن نحاول بناء مجتمع من قادة التغيير يضم نخبة من رواد الأعمال الاجتماعية في العالم، الذين يزرعون الأمل والتفاؤل لدى كل من يجلس معهم".
يخضع زملاء أشوكا لعملية تدقيق متعددة المراحل قبل الحصول على التمويل والتوجيه والاستفادة من شبكة تغطي 91 بلداً. وإذا نجحوا في الانضمام للشبكة، فإنّ 75 بالمئة منهم يكملون مشوارهم بمشاريع رابحة أو مستدامة مالياً. وتشرح إيمان بيبرس قائلة: "هؤلاء صناع تغيير منهجي وهم ينشئون صناعات جديدة، رغم أنهم يسبحون ضد التيار".
ومن المشاريع اللافتة لأعضاء الشبكة شركة غلوورك للتوظيف في المملكة العربية السعودية، التي نجحت بإدخال أكثر من 30 ألف امرأة إلى سوق العمل، واشترتها شركة ساس القابضة في عامها الأول بمبلغ 16 مليون دولار، وشركة "كير ويذ لوف" للرعاية الصحية المنزلية في مصر، التي منحت أكثر من 10 آلاف شخص فرصة العمل كمقدمي رعاية للمسنين في البلاد.
وتقول الدكتورة إيمان: "يعمل بعض زملائنا وفق نموذج أعمال ربحي، بينما يعمل البعض الآخر بطريقة غير هادفة للربح ولكنها استراتيجية أيضاً. ونحن نرى الكثير من الأفكار الجديدة الواعدة".
"يريد المحسنون تغيير العالم، لكنهم لا يؤمنون بدور المؤسسات غير الربحية في تحقيق التغيير المنشود".
غير أن الجهات المانحة في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا ما تزال مترددة في الاستثمار في تلك الأفكار، حيث تأتي الغالبية العظمى من تمويلات أشوكا العالم العربي من مانحين في الولايات المتحدة وأوروبا، على الرغم من الجهود المستمرة لجمع الأموال محلياً، وهذا يعكس ما تعتقد إيمان أنه سوء فهم كبير لدور القطاع الاجتماعي في تمكين المجتمع. وتضيف أن الغرض من القطاع الثالث هو التدخل في الأماكن التي لا تستطيع فيها الشركات ذلك، وإضافة تفكير جديد إلى جهود حل المشاكل الملحّة التي تزيد من عواقب عدم المساواة وعدم الاستقرار والتطرف. وبالنسبة للشركات وقادة الأعمال، فإن المساعدة في تمويل هذا العمل ليس مجرّد مسألة خيرية، بل هو لحماية أسواقها.
وتوضح إيمان ذلك بالقول: "الأمر بسيط جداً: إذا لم تستثمر في حلّ المشاكل الهيكلية، فلن يكون لديك سوق مستقر لبيع منتجاتك. ومما ساهم في الوضع الذي وصل له العالم العربي اليوم عدم الاستثمار في الأفكار الجديدة في مجالات التعليم والوعي والتسامح".
وترى إيمان أن المانحين يترددون بشكل خاص في الاعتراف بالمؤسسات غير الربحية كشركاء فاعلين في تحقيق التغيير الاجتماعي والاقتصادي. "ينفق المحسنون ملايين الدولارات لبناء مستشفيات أو مساجد، لكنهم يرفضون المؤسسات غير الربحية ويرونها جمعيات خيرية غير فعّالة. إنهم يريدون تغيير العالم، لكنهم لا يؤمنون بدور المؤسسات غير الربحية في تحقيق التغيير المنشود. ويعتقد الكثيرون أن منهج الأعمال يمكنه حل كل شيء، لكنه لا يستطيع ذلك، فبعض المشاكل تتطلب نهجاً مختلفاً".
إلى جانب ذلك، يُساء فهم الاستثمار الاجتماعي أيضاً لأن المؤسسات غير الربحية تستخدم بشكل متزايد لغة الأعمال التجارية، بالحديث عن النطاق والابتكار والمخاطر، بينما تتوقع الجهات المانحة غالباً ترجمة ما تقدمه من تمويلات إلى إحصاءات بسيطة توضح مستوى العائد عليها. لكن ليست جميع العوائد الاجتماعية قابلة للقياس بسهولة مثل عدد اللقاحات التي تم تقديمها أو الوجبات التي تم التبرع بها، على الرغم من أن عوائدها الحقيقية على المدى الطويل كبيرة.
وتقول إيمان عن ذلك: "إن المنظمات التي تعمل مع الزوجات اللواتي يتعرضن للضرب، أو الجانحين الأحداث، أو التي تشجع التسامح في المناطق الريفية، لن تتمكن أبداً من قياس العائد بصورة مالية. لكن ينبغي اعتبار الاستثمار في مثل تلك المنظمات ضريبة اجتماعية. فهي ليست صدقات أو تبرعات، لكنها في الوقت ذاته مساهمة بالغة الأهمية في بناء مجتمع متناغم".
وعلى مدى ثلاثة عقود من العمل التنموي، لعبت إيمان بيبرس دوراً في الثورة الهادئة لقطاع المنظمات غير الربحية في منطقة الشرق الأوسط. ففي السنوات الأولى بعد إطلاق أشوكا في العام 2003، كانت إيمان تعرّف المؤسسة على أنها "تستثمر في تمويل المشاريع الاجتماعية"، ما حيّر المانحين الذين لم يكونوا يعرفون الكثير عن مصطلح ريادة الأعمال الاجتماعية.
أما اليوم، فهي تقول أن القطاع تقدم بخطوات كبيرة، ويرجع جزء كبير من ذلك إلى موجة القيادات النسائية اللواتي ساعدن في إضفاء الطابع المهني على العمل غير الربحي.
"إنهن نساء عظيمات يجمعن بين المؤهلات التعليمية والدراية وحسن التصرف، وساهمن في تحقيق تحول جذري في هذا القطاع، إذ لم يعد مجرد شبكة لتوزيع الصدقات كما كان في جيل أمهاتنا، حين اقتصر دور المرأة على تقبيل الأطفال. بل نرى اليوم شخصيات نسائية قوية ومؤسسات غير حكومية قوية تحقق أثراً عميقاً".
مع ذلك، فإنّ عدد النساء اللواتي يشغلن مناصب عليا في القطاع غير الربحي يوضح أيضاً عوائق الأعمال والسياسة التي ما تزال تقف في وجههن، إذ تشغل النساء أقل من 2 بالمئة من مقاعد مجالس الإدارة في دول الخليج، وفقاً لبيانات منظمة العمل الدولية، في حين يتراوح حضور المرأة على المستوى التنفيذي من 17 بالمئة في الإمارات إلى 7 بالمئة فقط في قطر.
وتقول إيمان: "ليس لدينا نادي أخوية للفتيات، أو علاقات مع شبكات تمويل، ونحن لا نتحكم في الأموال". ونتيجة لذلك، فإن القطاع غير الربحي الأكثر انفتاحاً يوفر للنساء الطموحات فرصة أكبر للقيادة بالمقارنة مع عالم الأعمال التجارية. وتساهم ديناميكية السلطة ذاتها في تهميش القطاع ووصفه بأنه مجرد تبرعات خيرية أو شكل مبهرج لتقديم الرعاية، كما تقول إيمان.
وفي حين أن القطاع الخاص الذي يهيمن عليه الذكور يمتلك الموارد والنفوذ، ويموّل الأعمال التي يراها مناسبة فقط، فإن القطاع غير الربحي يعاني من أجل الحصول على الثبات المطلوب لتحمل المخاطر والابتكار وتقديم حلول جديدة للمشاكل القديمة.
"يرجع الأمر في نهاية المطاف إلى تساؤل بسيط: من بيده المال والنفوذ؟ عندما يلتقي كثير من المانحين الرجال بي أو بمنظمة غير ربحية تقودها امرأة، فإنّهم يفترضون دون تمحيص أنّ الأمر يتعلق بالتبرعات والعمل الخيري التقليدي. ويقترحون عليّ التحدث إلى زوجاتهم. يجب أن ترتقي بيئة الأعمال التجارية عن هذه الأفكار المسبقة كي ترانا على حقيقتنا وتعترف بالأثر الذي نحققه".
ويتطلب إصلاح ذلك تغيير السرد وتثقيف المنطقة عن الفارق بين العمل الخيري التقليدي والاستثمار الاجتماعي. كما يعني أيضاً استهداف الجيل التالي وترسيخ فكرة المسؤولية الاجتماعية في المدارس.
في مصر، تعمل أشوكا العالم العربي مع 20 مدرسة في برنامج "ابدأ التقمص العاطفي"، والذي يهدف إلى الارتقاء بالذكاء العاطفي لقادة المستقبل. وترغب إيمان بيبرس في توسيع هذا العمل ليشمل الجامعات أيضاً. وتقول: "نحن جميعاً نتشارك مسؤولية تغيير المجتمع نحو الأفضل. ومن مصلحة الجميع أن نبدأ بذلك".
الابتكار من أجـل التأثير
هيفاء العطية هي الرئيس التنفيذي السابق لمؤسسة الملكة رانيا للتعليم والتنمية، التي تهدف إلى تطوير التعليم في الأردن وعموم المنطقة.
يعد التعليم في الأردن خدمةً محدودة التوافر، إذ أن سنوات من الفوضى على حدود المملكة مع سوريا والعراق وضعت الاقتصاد الأردني تحت ضغط كبير، كما أدت استضافة نحو 1.3 مليون لاجئ إلى زيادة سكانية كبيرة واستنزاف لموارد البلاد.
كل هذا أدى إلى تآكل قدرة الأردن على توفير التعليم لمجموعات مثل الأطفال في سنّ ما قبل المدرسة واللاجئين والشباب الذين يريدون اكتساب مهارات مهنية. وفي بلد تناهز فيه نسبة البطالة 18 بالمئة، وتراجع نموه الاقتصادي في العام الماضي إلى نسبة 2 بالمئة، فإن ذلك ينطوي على مخاطر بعيدة المدى.
وتقول هيفاء العطية، الرئيس التنفيذي السابق لمؤسسة الملكة رانيا للتعليم والتنمية: "عندما أنظر إلى الأردن، أرى فرصة سكانية وفرصة اقتصادية، فقد تسببت أفواج اللاجئين بطفرة في عدد السكان، ما جعل مواكبة زيادة الطلب على الخدمات أمراً صعباً. لكن إذا تُركت هذه الشريحة من المجتمع دون أمل أو مساعدة، ودون فرصة في التعليم، فإن هذه الفرصة للنمو ستتحول إلى مشكلة".
أطلقت مؤسسة الملكة رانيا للتعليم والتنمية تطبيقاً رقمياً مجانياً يهدف لتطوير مهارات الحساب والمهارات الاجتماعية في مرحلة ما قبل المدرسة كاستجابة للفرص المحدودة في الحصول على تعليم جيد في الطفولة المبكرة، إذ أن نسبة الأطفال الصغار الذين يذهبون إلى الحضانة في الأردن لا تتجاوز 25 بالمئة.
وقد تم تنزيل هذا التطبيق الذي تمّ تفعيله في ديسمبر الماضي ويهدف إلى المساعدة في سدّ النقص في مراكز التعلّم الفعلية، أكثر من 300 ألف مرة، وتم تسجيل أكثر من 3.2 مليون جلسة تعلم ضمنه.
وتقول هيفاء، التي تركت منصبها في شهر أغسطس الماضي بعد خمس سنوات فيه: "أعتقد أن ذلك يظهر تعطّش الناس لهذا النوع من الخدمات. فهو يسمح للأطفال بالتعلّم من خلال اللعب، كما أنه تطبيق مجاني، ويحفز مشاركة الأهل في تعلم أبنائهم. وإذا كنا لا نستطيع تسجيل جميع الأطفال في المدارس العامة، فأقل ما يمكننا فعله هو تقديم الدعم، بينما تعمل الحكومة على توفير التعليم للجميع".
"نحن نستقصي ثلاثة أمور أساسية عبر الأسئلة التالية: هل المشروع مؤثر، وهل هو قابل للتوسع، وهل هو مستدام؟".
تتميز الكثير من أعمال مؤسسة الملكة رانيا للتعليم والتنمية بالجمع بين التقنية والتعليم. تهدف المؤسسة التي تم إطلاقها في العام 2013 من قبل ملكة الأردن رانيا العبد الله إلى الارتقاء بالتعلم إلى آفاق جديدة من خلال إيجاد وتحفيز وتوسيع نطاق حلول مبتكرة وفعالة من حيث التكلفة لما يتعرض له التعليم في الأردن من تحديات. وإلى جانب احتضان الأفكار الجديدة لتغيير التعليم، تستثمر المؤسسة في البحوث لتوجيه عملها، حيث يمكن تطبيق المبادرات التي تكتسب زخماً في الأردن في مناطق أخرى من الشرق الأوسط وخارجه.
وتقول هيفاء: "الأردن هو مختبرنا، لكن عملنا ينطبق على المجتمعات العربية سواء تلك المتواجدة في اليونان أو ألمانيا أو المملكة العربية السعودية وأكثر من ذلك".
كانت هذه الاستراتيجية الحافز وراء برنامج "إدراك"، وهو أول دورة جماعية غير ربحية مفتوحة تنظم باللغة العربية عبر الإنترنت على مستوى المنطقة، حيث تم بناؤها باستخدام تقنيات مفتوحة المصدر من تطوير جامعة هارفارد ومعهد ماساتشوستس للتقنية. وتتطرق هذه الدورات إلى موضوعات متنوعة منها مهارات التوظيف وعلم الروبوتات والدعم العلاجي، وهي مصممة لمنح الدارسين العرب منصة مجانية للتعليم المستمر. وفي الأعوام الثلاث التي تلت إطلاق البرنامج، اشترك في "إدراك" أكثر من مليون متعلّم، وانضموا إلى منحنى التعلم الرقمي الذي كان حتى ذلك الحين يتجاهل الناطقين بالعربية إلى حد كبير بسبب ندرة المحتوى.
وتتابع هيفاء حديثها قائلة: "أردنا تقديم دورات تثري حياة الناس: سواء من خلال مساعدتهم في الحصول على وظائف، أو تطوير مهاراتهم، أو العودة للتعلم بعد انقطاع، كما هي حال العديد من العرب النازحين الذين لا يستطيعون دخول المدرسة أو الجامعة. فمثلاً، لو كنت امرأة في المملكة العربية السعودية، أو شاباً في اليمن يرغب في مواصلة التعلم، فنحن نجعل ذلك ممكناً".
كما تفرعت المنصة لتوفر التعليم للأطفال، حيث حظيت بمنحة قدرها 3 ملايين دولار من مؤسسة غوغل غير الربحية كي تقدّم التعلم التفاعلي للطلاب في الصفوف من السادس إلى الثاني عشر، وذلك بإنشاء فصل دراسي افتراضي قائم على محتوى تعليمي وأدوات وألعاب باللغة العربية. ويهدف الموقع إلى أن يكون مصدراً ليس للأطفال فحسب، بل أيضاً للمعلمين والمدارس التي تفتقر للموارد في جميع أنحاء المنطقة.
وعن ذلك تقول هيفاء: "هذه حلول رائعة تسخر التقنية من أجل المساعدة في إصلاح النظام التعليمي وتوسيع نطاقه. وهي السبيل الأمثل للمساعدة في دولة مثل الأردن، حيث تزدحم المدارس وتضطر للعمل على فترتين أو ثلاث فترات يومياً في محاولة لاستيعاب الطلبة اللاجئين".
ويرجع جزء من الأفضلية التنافسية التي تمتاز بها مؤسسة الملكة رانيا إلى شخصية مؤسستها، فسمو الملكة رانيا من أشهر الناشطين في دعم التعليم، وقد سخرت منصبها وشهرتها على مدى سنوات للضغط من أجل الإصلاح. وتشمل محفظة تمويل المؤسسة شركاء من الأردن وخارجها. ففي شهر مايو، قدّم جاك ما، مؤسس شركة "علي بابا" الصينية العملاقة مبلغ 3 ملايين دولار لدعم أعمال المؤسسة، في حين تساهم مبيعات نماذج التعلم عبر الإنترنت التي طورتها المؤسسة في دعم أنشطتها.
كما تعدّ الشراكات مع كيانات مثل وزارة التنمية الدولية البريطانية ووزارة التربية والتعليم الأردنية مهمة أيضاً. فضلاً عن ذلك، يعمل فريق المؤسسة لتقديم أعمالها وفق أرقى المعايير، باستخدام أدوات من بينها مجموعات المراقبة العشوائية وأدوات قياس النتائج وتتبع الأثر. وتضيف هيفاء: "في كل مشروع تدخل فيه المؤسسة، نحن نستقصي ثلاثة أمور أساسية عبر الأسئلة التالية: هل هو مؤثر، وهل هو قابل للتوسع، وهل هو مستدام؟".
إلى جانب ذلك، فإن المؤسسة مستعدة أيضاً للدخول في مشاريع ومبادرات بعيدة المدى، ففي شهر سبتمبر، كشفت المؤسسة النقاب عن مسابقة لشركات التعليم الناشئة في المنطقة، حيث قدمت ثلاث منح تبلغ قيمتها الإجمالية 200 ألف دولار دعماً لريادة الأعمال والابتكار في هذا القطاع.
وتنطبق عقلية النمو ذاتها على فريق عمل المؤسسة، الذي تمثل النساء أكثر من نصفه، حيث تمتاز مؤسسة الملكة رانيا للتعليم والتنمية بثقافة داخلية قوية من حيث التوجيه والإرشاد. كما أن الكثير من أعضاء فريق الإدارة العليا، بمن فيهم الرئيس التنفيذي الجديد، هم من موظفيها الذي ترقّوا عبر درجات السلّم الوظيفي. وعن ذلك تقول هيفاء العطية: "كانت رؤيتي دائماً هي أن أترك مؤسسة الملكة رانيا للتعليم والتنمية في أيدي هؤلاء الشباب الذين يؤمنون برسالتها ويستطيعون تحقيقها. وقد حرصت على مساعدتهم وتوجيههم واستثمرت فيهم، وأعتقد أنهم أناس رائعون".