عشرة
دخل القطاع الخيري في منطقة الشرق الأوسط مرحلة من النضج تجعل المانحين يبحثون أكثر فأكثر عن نهج استراتيجي يتم توجيه أموالهم من خلاله. اخترنا لكم هنا بعض التوجهات الناشئة التي من شأنها أن ترفع من فعالية وأثر عمل الخير في المنطقة خلال العشر سنوات القادمة.
يعدنا العقد القادم من الزمن بأن يكون حافلاً بالأنشطة والأخبار المميزة على صعيد ريادة العطاء في العالم العربي. فرواد العطاء العرب المشهورون بكرمهم والذين بدأت تتنامى سمعتهم وأثرهم حول العالم، يتطلعون لعقد شراكات جديدة وإطلاق مشاريع أكثر ابتكاراً واستدامة. وقد بدأت وتيرة التحوّل تزداد وإن كان ببطء من نمط الهبات الخيرية القصيرة المدى إلى انتهاج استراتيجيات عطاء مدروسة تتصف بالشفافية وقوة الأثر. كما تتجه دول الخليج، مثل الإمارات العربية المتحدة والكويت، إلى تعديل السياسات ووضع أجندات جديدة في مجالات تشمل المساعدات الإنسانية ومكافحة الأمراض التي يمكن الوقاية منها.
وفي هذه الأثناء تلعب التكنولوجيا دورها في دعم التغيير الإيجابي، سواء كان في كيفية تقديم المساعدات الإنسانية في المنطقة أو في الطريقة التي تقام من خلالها حملات جمع التبرعات. من جهة أخرى، فإن التقدم الحاصل على صعيد خدمات التمويل الإسلامي والعطاء المتوافق مع الشريعة في السنوات الماضية يوفر اليوم قنوات إضافية جديدة لتمويل المشاريع وخلق أساليب مبتكرة أمام المنظمات والأفراد لدعم أعمالها الإنسانية والتنموية.
فيما عدا ذلك، فإن جائحة كوفيد-19 التي فاجأت العالم بانتشارها السريع وتداعياتها على مختلف جوانب الحياة قد شكلت درساً قاسياً في أهمية جهوزية دول العالم لمثل هذه الطوارئ وضرورة وجود استجابة دولية للتحديات العالمية. فقد تسبب فيروس كورونا المستجد في بروز احتياجات طارئة لا تحصى، فضلاً عن تداعياته الاجتماعية والاقتصادية التي لم يتضح بعد حجمها وعمق أثرها. وبين ليلة وضحاها، أضاف الوباء ثقلاً كبيراً على عاتق العمل الخيري وأبرز أهمية دوره على الساحة الدولية – ما سيتردد صداه على مدى السنين القادمة.
في الخلاصة، سيشهد عقد العشرينات من ألفيتنا الثالثة نمواً في ريادة العطاء والتعاون الاستراتيجي، مع إطلاق المزيد من أدوات التمويل المبتكرة، والتركيز المتنامي على العطاء المؤثر على نطاق عالمي. ومع انتقال أعمال المكاتب العائلية ومقدراتها إلى جيل جديد من الشباب، ستزداد فرص توظيف ثروات المنطقة في شؤون العطاء الهادف والخير المستدام. اخترنا لكم هنا بعض التوجهات الناشئة التي من شأنها أن ترفع من فعالية عمل الخير وأثره في المنطقة خلال العشر سنوات القادمة.
01.
توسيع رقعة العطاء
ارتفعت القيمة الإجمالية للتبرعات التي قدمها المانحون العرب بشكل كبير خلال الأعوام الماضية، لكن الضغوط ترافقت مع هذا المنحى لكي تكون الأولوية في تقديم الدعم إلى القضايا والمنظمات المحلية. فمع تراجع أسعار النفط عالمياً وانكماش الميزانيات الحكومية في دول المنطقة، يزداد الضغط على المانحين لكي يوجهوا عطاءهم وأعمالهم الخيرية إلى داخل أوطانهم، وغالباً ما يكون هذا من خلال تمويل الجمعيات الخيرية المدعومة من قبل الحكومة. هذا بالإضافة إلى أن مجموعة صغيرة فقط من القضايا أو القطاعات الخيرية تستحوذ على معظم التمويل. فعلى سبيل المثال، لا يخصص لقضية تغير المناخ أو المساواة بين الجنسين من الدعم الذي يقدم إلى قضايا التعليم والصحة سوى القليل.
هذا النمط في العطاء هو أيضاً السائد بين أثرياء المنطقة من الوافدين، الذين يميلون إلى منح الجزء الأكبر من أموالهم لقضايا في بلدهم الأم، وذلك من خلال المؤسسات الخيرية الخاصة في بلدهم أو على شكل تبرعات لحملات الإغاثة. وقد تعهد رواد الأعمال الذين يتخذون من دول الخليج مقراً لهم بملايين الدولارات للكوارث التي سببتها الفيضانات وتغير المناخ في كل من الهند وباكستان والفلبين، إضافة إلى شحنات من الألبسة ومواد الإغاثة. غير أنه من الصعب تحديد الأثر الفعلي لهذا العطاء، الذي غالباً ما يتم بطريقة غير منظمة وبدون تخطيط مسبق.
وقد يصبح هذا النمط مع مرور الزمن عائقاً يحد من أنماط العطاء غير التقليدية والواعدة الأخرى والتي من شأنها أن تحقق نجاحات كبيرة على صعيد التغيير الاجتماعي الإيجابي. وهناك الآن حاجة للتحوّل من النمط الحالي في جانبيه – موقع القضايا وطبيعة المبادرات – حينها فقط يمكن للمانحين المساهمة في الحد من قضايا مهمة مثل عدم المساواة والبطالة بين الشباب، والتي تتجاوز حدود الدول. من جهة ثانية، فإن جائحة كورونا التي عاثت خلال بضعة أشهر فقط الفوضى في الأنظمة الصحية والاقتصادية والاجتماعية حول العالم، قد أكدت على ضرورة العمل المشترك والموحد لمواجهة الأزمات العالمية. ولا شك أن المانحين العرب سيرغبون – إن لم يكونوا بحاجة – لأن يؤدوا دوراً في الاستجابة العالمية لإيجاد لقاح، وإعادة الدورة الاقتصادية لمسارها، وإعانة الفئات المجتمعية الأكثر عرضة للمخاطر.
وبينما تستمر بيئة العطاء في المنطقة بالنضوج، نتوقع أن تتسع الفجوة بين المانحين الذين لديهم الاستعداد لأن يراهنوا على مبادرات مبتكرة تعدنا بفوائد كبيرة وبين أولئك الذين سيستمرون في تقديم الأموال ضمن الأطر التقليدية لعمل الخير. كما نرى أنه من المرجح على المدى الطويل قيام منصة جامعة للعطاء في المنطقة قادرة على توجيه الموارد، والاستجابة لحالات الطوارئ العالمية، وتمكين المانحين الذين يمتلكون نهجاً استراتيجياً من النفاذ إلى مجموعة من القضايا المهمة التي يمكنهم إحداث الفرق فيها.
02.
مكافحة الأوبئة والأمراض
أصبحت مشاركة المانحين من دول الخليج في الحملات العالمية تضعهم في مصاف كبار الداعمين لقضية مكافحة مرض شلل الأطفال والملاريا والأمراض المدارية المهملة التي تعاني منها بشكل أساسي المجتمعات الفقيرة والمهمشة في العديد من الدول. وكان صاحب السمو ولي عهد أبوظبي الشيخ محمد بن زايد قد تبرع من أمواله الخاصة بما يزيد عن 250 مليون دولار لمحاولة القضاء على داء دودة غينيا وشلل الأطفال وأمراض أخرى – هذا فضلاً عن مساعدات سخية من جانب دولة الإمارات. وتؤكد هذه المؤشرات وغيرها على أن المنطقة أصبحت جاهزة للمساهمة في الخطوط الأمامية لتقديم الرعاية الصحية والمشاركة في البحوث العلمية في هذا المجال، ما قد يؤدي إلى أن تصبح المنطقة فاعلاً أساسياً في مجال الصحة العامة على مستوى العالم. ويأتي هذا التوجه في وقت مناسب جداً نظراً لانتشار جائحة كوفيد-19 التي ما يزال وقعها قوياً على جميع دول العالم.
وقد قامت إمارة أبوظبي مؤخراً بافتتاح المعهد العالمي للقضاء على الأمراض المعدية (غلايد) بهدف تعبئة الجهود القائمة لمكافحة شلل الأطفال والملاريا والعمى النهري وداء الخيطيات اللمفية (lymphatic filariasis). ويعتزم المعهد دعوة مجموعة من الخبراء لتقييم الوضع على الأرض والمساعدة في الأبحاث ووضع الاستراتيجيات، ما من شأنه أن يضع أبوظبي في مكانة متقدمة في شؤون الصحة العامة عالمياً.
من جهته، شارك 'مجتمع جميل'، وهو الذراع الخيرية لمجموعة عبد اللطيف جميل السعودية، بالجزء الأكبر من تمويل معهد عبد اللطيف جميل لمكافحة الأمراض المزمنة والأوبئة والأزمات الطارئة (J-IDEA) في إمبيريال كوليدج بلندن. ويهدف المعهد إلى تحسين حياة المجتمعات الأكثر عرضة للإصابة بالأمراض في العالم من خلال استخدام أحدث الأساليب وبرامج الكمبيوتر المتخصصة في جمع وتحليل البيانات وإجراء البحوث المتقدمة لإيجاد حلول عملية لمواجهة هذه التحديات. ويعد المعهد من الجهات الفاعلة الرئيسية في جهود الاستجابة العالمية للأزمات الصحية حول العالم مثل وباء الإيبولا وجائحة كوفيد-19.
وتستقطب الرعاية الصحية الوقائية دعماً متزايداً من دول الخليج. على سبيل المثال، في غضون سنوات قليلة فقط تبرع المانحون الخليجيون من القطاعين العام والخاص بمبلغ إجمالي بلغت قيمته 51 مليون دولار للتحالف العالمي للقاحات والتحصين (غافي) – وهو تحالف مدعوم من قبل مؤسسة بيل وميليندا غيتس الخيرية يعمل على تمويل برامج اللقاحات ضد الأمراض في الدول الفقيرة ويضم شركات خاصة وجهات حكومية. وقد أعلنت المملكة العربية السعودية في أبريل عن عزمها تقديم 150 مليون دولار لكل من 'غافي' وائتلاف الابتكار في الجهوزية ضد الأوبئة لاستخدامها في الحملة ضد جائحة كوفيد-19. ومن المتوقع أن تتعهد كل من الكويت والإمارات العربية المتحدة وقطر وعُمان، ضمن مجموعة من الدول، بالتبرع من جديد بمبالغ مهمة لقضايا التحالف، وذلك خلال انعقاد دورته التالية من جمع التبرعات.
ويقول فيصل جيلاني، الشريك الأول لتعبئة الموارد وتحالفات القطاع الخاص في 'غافي': "مقارنة بالعقد السابق، هناك اليوم التزام أقوى من الحكومات وأصحاب المصلحة في المنطقة فيما يتعلق بحملات التلقيح". ويتوقع جيلاني أن يزداد التعاون مع المنطقة خلال الأعوام القادمة، مع احتمال إنشاء منصة للتمويل الجماعي (crowdfunding) لاستقطاب العطاء الإسلامي نحو 'غافي'، وتأسيس مصنع للقاحات في المملكة العربية السعودية سعياً للحفاظ على تدني أسعار اللقاحات.
ومع استمرار نمو هذا النهج في العطاء، هناك فرص لأن يقدم المانحون في المنطقة دعماً لقضايا أكبر وطموحة أكثر في مواجهة التحديات الرئيسية في مجال الصحة في المنطقة والعالم.
03.
جبهة موحدة
المثل القائل أن في الاتحاد قوة ينطبق أيضاً على ريادة العطاء، إذ لا يمكن التعامل مع المشاكل الكبيرة والمستعصية في المجتمعات بشكل فعّال إلّا بتضافر جهود المانحين. نحن نتوقع خلال العقد القادم من الزمن بأن تنشأ علاقات تعاون بين رواد العطاء العرب بهدف ضم خبراتهم ومواردهم وجهودهم لكي يصبح أثر أعمالهم أقوى وأعمق في قضاياهم الإنسانية المشتركة.
وستمثل هذه الخطوة نقلة نوعية في العطاء العربي الذي لا تزال غالبيته تقدم في السر، بعيداً عن الأضواء ووسائل الإعلام، تماشياً مع التقاليد الثقافية في تراث المنطقة التي تدعو إلى عدم الإفصاح عن الإحسان والعطاء - وهو نهج يصعب معه تطبيق معايير العطاء الحديثة مثل تحديد المستهدفات والمخرجات أو التأكد من أن الدعم يُقدم حيث تزداد الحاجة له - ما يؤدي إلى خلق ضبابية وجهود مشتتة في مشهد العطاء، كما يرفع من احتمال الازدواجية في البرامج والجهود. في المقابل، فإن الشراكة والتعاون في ريادة العطاء تمثل فرصة لرصد المزيد من الأموال للقضايا والاستفادة من تبادل الخبرات وتعبئة الجهود ضمن منهجية واضحة الرؤية والأهداف. وتشمل الفوائد أيضاً خفض التكاليف التشغيلية باستخدام فريق عمل واحد، وتوسيع شبكة العلاقات، واحتمال أن تتشارك عدة قطاعات معاً في سبيل إحداث التغيير على نطاق واسع. ويمكن لرواد العطاء من خلال حلقات العطاء وشبكات التواصل بين الأقران أن يتبادلوا المعارف والخبرات ويخرجوا بتجارب جديدة.
وقد بدأت بالفعل بوادر هذه الحلقات والشبكات تظهر على السطح. على سبيل المثال، يسعى رائد العطاء الإماراتي معالي عبدالعزيز عبدالله الغرير، رئيس مجلس أمناء مؤسسة عبدالله الغرير للتعليم، إلى تحفيز رواد العطاء الآخرين على المشاركة في إنشاء شبكة عطاء إقليمية تكون منصة للحوار والتباحث والتعلم والإرشاد؛ وقد حقق لغاية اليوم نجاحاً في المرحلة الأولى من فكرته. وفي المملكة العربية السعودية، أسس خالد وألفت الجفالي 'صندوق الشفاء' ليكون أول منصة من نوعها للتعاون ما بين رواد العطاء يتم من خلالها توجيه الهبات المالية إلى قضايا ترعى صحة الأطفال والأسر المحتاجة في منطقة الشرق الأوسط وجوارها.
وفي الإمارات العربية المتحدة، حظيت فكرة إطلاق شبكة لريادة العطاء في منطقة الخليج بدعم من مجموعة من الأثرياء ورواد العطاء من ضمنهم أسرة فاركي المعروفة باستثماراتها الكبيرة في دولة الإمارات، بهدف زيادة أثر العطاء وفوائده على المجتمعات. كما قامت الشبكة العالمية لريادة العطاء 'نيكسوس'، والتي تستهدف جيل الشباب من الأسر الثرية ذات النفوذ، بافتتاح أول فرع لها في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في عام 2017. وتسعى الشبكة إلى حثّ الجيل القادم ومساعدته على الدفع بالتغيير الاجتماعي المستدام والقابل للتطبيق على نطاق واسع.
من جهة أخرى، بلغ عدد المانحين من منطقة الخليج الذين انضموا إلى حملة "تعهد العطاء" سبعة من أثرياء المنطقة، وهي حملة أطلقها اثنان من أكبر أثرياء العالم - هما بيل غيتس ووارين بافيت – يتعهد من خلالها المشاركون بالتبرع بما لا يقل عن نصف ثرواتهم للأعمال الخيرية. وتوفر المنصة للمشاركين النفاذ إلى حلقة تضم بعضاً من أكبر رواد العطاء في العالم، مع أجندة للقاءات فردية بين الأقران يتم خلالها تبادل المعارف والخبرات والتشاور.
كما نتوقع أن يستمر التوجه نحو المزيد من التعاون خلال العقد القادم، خاصة لدى المانحين الراغبين بمبادرات أكثر جرأة وقابلية لإحداث الأثر الكبير، وكذلك الاستفادة من فرصة اختبار سبل ووسائل جديدة وواعدة.
04.
الإيمان والتمويل
لقد أدت التكنولوجيا إلى طرح أساليب مبتكرة في تقديم العطاء الإسلامي من خلال توفير عدد متنامٍ من تطبيقات وقنوات جمع التبرعات المتوافقة مع الشريعة، لتغيّر بذلك الطريقة التي يتبرع من خلالها المسلمون والقضايا التي يقدمون الدعم لها.
وكما هو معروف ضمن أركان الإسلام الخمسة، تفرض ضريبة الزكاة على المسلمين سنوياً بواقع 2.5 بالمئة من أموالهم وأملاكهم بما يزيد عن مستوى الدخل الأدنى أو النصاب، ويتم صرفها على الفقراء والمحتاجين. كما يُفرض على المؤسسات المالية الإسلامية منح جزء من أرباحها فضلاً عن تسديد ما يسمى برسم التطهير إذا كانت تجني أرباحاً من صفقات غير متوافقة مع الشريعة. هذه الفرائض المالية، وغيرها مثل الصدقات والأوقاف، تشكل واحدة من أكبر الثروات الخيرية في العالم، وهي تقدّر بنحو تريليون دولار – ما يشكل مورداً مغرياً لوكالات الإغاثة والتنمية التي تعاني من نقص حاد في التمويل، في الوقت الذي تتفاقم فيه القضايا الإنسانية حول العالم.
ومن المبادرات البارزة الجديدة في هذا المجال هو الصندوق الإسلامي الخيري للأطفال (GMPFC) الذي تم إنشاؤه بالشراكة ما بين منظمة الأمم المتحدة للطفولة (اليونيسيف) والبنك الإسلامي للتنمية. فمن خلال هذه المبادرة الأولى من نوعها، يتيح الصندوق المجال لأن يستخدم العطاء الإسلامي بمختلف أشكاله، مثل الزكاة والأوقاف الإسلامية، في حالات الاستجابة الطارئة وبرامج التنمية المتعلقة بالأطفال الذين يعيشون في الدول الأعضاء في منظمة التعاون الإسلامي.
وكان رائد العطاء الإماراتي عبدالعزيز عبدالله الغرير أول من بادر إلى دعم الصندوق حيث تعهد بتقديم مبلغ 10 ملايين دولار بهدف دعم برامج تعليم أطفال اللاجئين. وتدور اليوم مباحثات مع كبار المانحين من أفراد ومؤسسات في الدول الإسلامية للمشاركة في الصندوق، من ضمنهم مركز الملك سلمان للإغاثة والأعمال الإنسانية في السعودية، وحكومة ماليزيا.
وكانت المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين قد أطلقت منصة لجمع تبرعات الزكاة على الإنترنت في العام 2016 ثم أعادت إطلاقها العام الماضي تحت العلامة المؤسسية الجديدة، 'صندوق زكاة اللاجئين'، بهدف توجيه المساعدات إلى اللاجئين والنازحين في منطقة الشرق الأوسط وغيرها من المناطق المنكوبة. وقد استقطب الصندوق تبرعات بلغت قيمتها 43 مليون دولار في عام 2019 تم صرفها على شكل مساعدات نقدية وعينية وخدمات لصالح اللاجئين.
على صعيد آخر، يتم التباحث بين مؤسسة الاستثمار المالي المسؤول، وهي مجمع فكري للتمويل الإسلامي يتخذ من لندن مركزاً له، ومؤسسة الصندوق العالمي التي تضم جهات دولية تعمل على حشد الجهود لمكافحة مرض نقص المناعة المكتسبة (الإيدز) والسلّ والملاريا. ويهدف التعاون المرتقب بين المؤسستين إلى الاستفادة من موارد الزكاة المؤسسية من البنوك الإسلامية في تقديم برامج ذات أثر حقيقي في حياة اللاجئين والنازحين حول العالم.
في هذه الأثناء، تعمل منظمات أخرى على كسب ثقة المانحين والمستثمرين المسلمين من خلال طرح أدوات استثمارية مبتكرة، كان منها التحالف العالمي للقاحات والتحصين (غافي) الذي أطلق منذ العام 2014 ثلاثة إصدارات مختلفة من الصكوك بلغت قيمتها 750 مليون دولار – ما يعادل تقريباً نصف التعهدات المالية المخصصة لتلك الفترة. يوضح سايروس أردلان، رئيس مجلس أمناء غافي لشؤون التمويل الدولي، بقوله أن سندات اللقاحات ساعدت على تنويع قاعدة المستثمرين لتشمل سوقاً رئيسية في الشرق الأوسط.
ويقول: "إن سندات اللقاحات تدعم هدفاً واضحاً لا خلاف على فوائده على المجتمع، وهي مسألة منسجمة كلياً مع فلسفة الشريعة".
ومن الأمثلة الأخرى صندوق 'وان واش' الذي تم الإعلان عنه في أواخر عام 2019 والذي يهدف إلى خفض الوفيات من الكوليرا في الدول الأعضاء في منظمة التعاون الإسلامي بمعدل 90 بالمئة. والصندوق هو ثمرة شراكة بين البنك الإسلامي للتنمية والاتحاد الدولي لجمعيات الصليب الأحمر والهلال الأحمر، وهو يجمع ما بين مساهمات التمويل الإسلامي، مثل الزكاة والصدقة والأوقاف، والتمويل التقليدي للمانحين. لكن سيتم تمويل الصندوق مسبقاً من خلال إصدار الصكوك لكي يتمكن من تقديم خدماته على نطاق واسع منذ انطلاقته.
وفي الوقت الذي تسعى فيه المنظمات العالمية للاستفادة من العطاء الإسلامي لتغطية الثغرات في التمويل، نتوقع أن يصبح العالم العربي مركزاً للابتكار والمبادرات الجديدة في هذا المجال.
05.
ما بعد تحقيق الأرباح
بينما كان جني الأرباح هو السبب الأول والأخير لوجود الشركات في الماضي، هناك اليوم توجه عالمي متنامٍ يرى قيمة مهمة في الأهداف الأشمل التي تتجاوز الأرباح؛ وقد بدأ هذا التوجه بالانتشار تدريجياً في منطقة الشرق الأوسط، خاصة لدى الشركات الكبيرة. وعلى الرغم من أن الشركات في المنطقة تحقق بشكل عام معدلات أرباح عالية وتتمتع بقاعدة رأس مال متينة، فهي في المقابل لا تبخل في عطائها للمجتمع. تشير تقديرات شركة 'آند استراتيجي' Strategy& الاستشارية إلى أن أكبر 100 شركة عائلية في منطقة الخليج تقدم ما لا يقل عن 7 مليارات دولار للأعمال الخيرية كل عام.
من ناحية أخرى، فإن الدافع وراء تبني الشركات للمسؤولية الاجتماعية الذي كان يتمحور حول كونها فرصة تسويقية أكثر مما هي ممارسة أساسية للأعمال تصب في مصلحة المجتمع والشركات ذاتها، قد بدأ بالتغير. فحسب ما تقول الأشرم من شركة Sustainable Square التي تتخذ من دبي مركزاً لها، يتجه العديد من الشركات نحو تطوير برامج مسؤولية اجتماعية أكثر وقعاً وأثراً في المجتمعات المحلية.
فتقول: "تعلمنا المزيد من الشركات يوماً بعد يوم بأنها ترغب بالتخلي عن نمط العطاء الخيري التقليدي أو القائم على تقديم هبات متفرقة أو تنظيم فعالية بين الحين والآخر، والتوجه عوضاً عن ذلك نحو تطوير برامج لها مؤشرات واضحة يمكن من خلالها قياس الأثر على المدى الطويل". وتضيف: "المسألة لم تعد تتعلق فقط بالشعور بالرضا عن النفس نتيجة العطاء، بل أصبح الغرض هو معرفة كيف تصرف هذه الأموال وما هو أثرها – ليس فقط على المجتمع المحلي، بل على أعمال الشركة بشكل عام".
ومن الجهات التي تعمل على حثّ الشركات في منطقة الخليج على تبني مفاهيم الاستدامة والشفافية والمساءلة، فضلاً عن المشاركة الفعلية في ريادة العطاء، هي مبادرة بيرل التي تتخذ من دولة الإمارات مقراً لها، وهي عبارة عن شبكة أعمال تضم مجموعة من الشركات. وتؤكد مبادرة بيرل على أن الحوكمة السليمة تساهم في تحقيق الأرباح. كما تقدم بعض الشركات الرائدة في المنطقة، مثل 'موانئ دبي العالمية' و'أرامكس'، نماذج مميزة يحتذى بها في مجال المسؤولية الاجتماعية للشركات تعتمد على استراتيجيات تم إعدادها بإتقان لتتماشى مع قيمها المؤسسية.
من جهة أخرى، تلعب الأسواق المالية دوراً في الترويج لتبني نهج الأعمال الداعمة للبيئة والمجتمع. فقد انضمت كل من سوق أبوظبي للأوراق المالية، وسوق دبي المالي، وبورصة الكويت، والسوق المالية السعودية (تداول)، إلى مبادرة أسواق الأوراق المالية المستدامة التي أطلقتها الأمم المتحدة والتي تشجع الشركات على توخي نهج استثمار مسؤول والإفصاح عن البيانات المتعلقة بأثرها الاجتماعي والبيئي.
وفي عام 2018، بادرت الإمارات العربية المتحدة باتخاذ خطوة متقدمة في هذا المجال عندما أعلنت عن إعداد مؤشر وطني لتتبع وتوثيق إسهامات الشركات على صعيد مسؤوليتها الاجتماعية، مع الإشارة إلى احتمال تقديم امتيازات للشركات التي تحقق أفضل نتائج لصالح المجتمع المحلي. وفي مارس من العام الحالي أطلقت هيئة المساهمات المجتمعية (معاً) في أبوظبي مبادرة تهدف جزئياً إلى جمع التبرعات لمساعدة الفئات الأكثر تضرراً من جائحة كوفيد-19. وقد نجحت هذه المبادرة في جمع أكثر من 27 مليون دولار خلال الخمسة أيام الأولى من إطلاقها – كان الجزء الأكبر منه قد تبرعت به الشركات.
من شأن هذا التوجه الواعد أن يقدم حلولاً فعالة لأكثر تحديات العالم العربي تعقيداً إن تمت تنميته وتوجيهه بالشكل الصحيح لأن الشركات بإمكانياتها المالية قادرة على تحقيق إنجازات لا يمكن للقطاع الخيري وحده تحقيقها. لكن ما سيدفع المزيد من الشركات إلى تبني هذا النهج، لكي يصبح العادة وليس الاستثناء، هو مقاربة من القمة إلى القاعدة في نظام المسؤولية الاجتماعية – وهذا ما يتوقعه الخبراء.
وتقول الأشرم: "الأسلوب المتبع اليوم في المنطقة يعتمد على تشجيع ومكافأة الشركات على استثماراتها في المسؤولية الاجتماعية وإفصاحها عن أدائها في هذا المجال – وليس فرض غرامات أو عقوبات على الشركات التي لا تلتزم بهذا النهج". وتضيف: "لكن هناك خطوات يتم الإعداد لها في هذا المجال، ما يجعلنا نأمل بأن تصدر قوانين ترفع نسبة المساءلة حول تطبيقات الاستدامة والإفصاح عن مستوى الأداء في المسؤولية الاجتماعية".
06.
دور الاستثمار المؤثر
سوف يشهد عقد العشرينات هذا نمواً في أعداد المستثمرين الذين سيوجهون أموالهم لما فيه صالح المجتمعات، ما سيؤدي إلى ازدياد الضبابية في الخط الفاصل ما بين الاستثمار المالي وفعل الخير. وتُقّدر اليوم قيمة الاستثمار المؤثر عالمياً بنحو 502 مليار دولار، وهو قطاع يحركه أفراد وشركات تسعى إلى إيجاد طرق مبتكرة في تحقيق مكاسب مالية واجتماعية في آن واحد. ولا يتوقع الخبراء أن تتباطأ وتيرة نمو هذا القطاع، خاصة مع أثر جائحة كوفيد-19 عالمياً – إذ من المرجح أن يؤدي الوباء إلى ظهور فرص جديدة للاستثمار في الحد من تداعيات الوباء.
ويقول عبدالله النبهان، المدير الإقليمي في الشرق الأوسط لشركة بالاديوم العالمية التي تختص بالاستشارات في إدارة الأثر: "إن الفكرة القائلة بأنه يمكن لهذه الأموال أن تحقق أثراً أكبر بدأت تكتسب تأييداً متزايداً. والمستثمرون يريدون أن يكونوا على ثقة بأن أموالهم ستنفق بطريقة مؤثرة وإيجابية".
وليس من المستغرب أن تكون المؤسسات العائلية هي الرائدة على مستوى العالم في تبني هذه الفكرة، فهي تمتلك ما يكفي من المال والمرونة لاختبار أساليب ونماذج عمل جديدة ومبتكرة. وما يزيد قليلاً عن ربع هذه المؤسسات تمارس، وإن كان جزئياً، نوعاً من أنواع الاستثمار المؤثر، وذلك وفق تقرير صدر عام 2019 عن شركتي 'يو بي إس' و 'كامدين ريسيرتش'. ولا شك من أن هذا التوجه سيحقق عوائد أكبر في الشرق الأوسط نظراً للحضور القوي للأسر الثرية في القطاع الخاص في المنطقة.
ويرى النبهان أن تبني مفهوم الاستثمار المؤثر سيكون قوياً في منطقة الخليج بالتحديد، ويفيد بأن هناك بضعة صناديق تمويل يتم بالفعل تطويرها في هذا المجال لتضمن أن يكون لها حصة في السوق الصاعدة والمغرية للاستثمار المؤثر. ويقول: "سيستغرق تطوير هذه الصناديق بعض الوقت قبل أن تكون جاهزة للإطلاق، لكن متى ما بدأت تحقق نجاحاً ملموساً أعتقد أن الاستثمار المؤثر سيكتسب حينها زخماً قوياً، وسيكون هناك توجه نحو توسيع نطاقه بمشاركة المكاتب العائلية والتكتلات الإقليمية التي ستجد فيه فرصاً قيّمة على كلا الصعيدين، المالي والعوائد الاجتماعية".
كما سيشهد هذا العام إطلاق إحدى هذه الأدوات المالية في دولة الإمارات تحت اسم 'العقود الاجتماعية' أو 'سندات الأثر الاجتماعي' بإدارة هيئة المساهمات المجتمعية (معاً) التابعة لدائرة تنمية المجتمع في أبوظبي. وهذه السندات هي عبارة عن عقود تستند إلى مبدأ 'الدفع في سبيل النتائج'. وسيتم استخدام هذه السندات، التي تعد الخطوة الأولى من نوعها في منطقة الخليج، في تمويل مشاريع لمنفعة المجتمع المحلي وذات مخرجات اجتماعية ثابتة تنضج على مدى ثلاث أو خمس سنوات. ومتى ما تم تحقيق المستهدفات، يتلقى المستثمرون المبالغ التي ساهموا بها بالإضافة إلى العوائد المترتبة عليها.
وفي فلسطين أطلق البنك الدولي 'سندات الأثر الإنمائي' في أواخر العام 2019 بهدف معالجة مشكلة البطالة المستفحلة بين الشباب في غزة والضفة الغربية، والتي بلغت نسبتها بين الخريجين الجامعيين في فلسطين – والذين يقدّر عددهم بنحو 40,000 - إلى ما يقارب 60 بالمئة.
وتعد هذه المرة الثانية التي يطلق فيها البنك الدولي 'سندات الأثر الإنمائي' في فلسطين، لكنها المرة الأولى التي تخصص فيها الإيرادات لمكافحة أزمة البطالة، حيث ستوفر هذه السندات التمويل اللازم لبرامج تدريب الخريجين الشباب على مهارات سوق العمل. وتضم قائمة المستثمرين البنك الأوروبي للإعمار والتنمية، وصندوق الاستثمار الفلسطيني، وصندوق الاستثمار الخاص في تشيلي 'سيميلا دي أوليفو'، والشركة الهولندية للتمويل الإنمائي – والذين سيستلمون العوائد على استثماراتهم في حال أكمل المشاركون برامجهم التدريبية وحصلوا على وظائف.
في الخلاصة، يشكل الاستثمار المؤثر فرصة للأفراد والشركات والمكاتب العائلية لمواءمة أعمالهم التجارية مع قيمهم الشخصية أو المؤسسية أو العائلية. ونتوقع أن تتسارع وتيرة تبني نهج الاستثمار المؤثر على مدى العشر سنوات القادمة، خاصة مع تولي الجيل القادم المزيد من المسؤوليات القيادية.
07.
تبني أهداف التنمية المستدامة
تتشكل أهداف التنمية المستدامة (SDGs) للأمم المتحدة من 17 هدفاً تسعى مجتمعة إلى جعل عالمناً مكاناً أفضل للعيش بحلول العام 2030. وتُعنى هذه الأهداف بجميع نواحي الحياة، بدءاً بإنهاء الفقر وحماية البيئة، وانتهاءً بتحسين مستوى النفاذ إلى التعليم وتحقيق المساواة الاقتصادية. ومنذ إطلاقها في عام 2015، أصبحت هذه الأهداف أداة للتخطيط تستخدمها الحكومات والشركات والمنظمات غير الربحية والمانحون. ومع اقتراب موعد تحقيقها في عام 2030، نحن نتوقع أن تلعب هذه الأهداف دوراً محورياً في تشكيل السياسات ومجالات الإنفاق.
توضح ميديا نوسنتيني، المؤسس المشارك والرئيس التنفيذي للمشروع الاجتماعي 'كونسلت أند كوتش فور أيه كوز' (C3) الذي يتخذ من دبي مقراً له: "تشكل أهداف التنمية المستدامة إطاراً إرشادياً جيداً. فهي تساعد في تنسيق الخطط والجهود حول كل العالم في مواجهة التحديات المشتركة". وتضيف قائلة: "قبل بضع سنوات لم يتحدث سوى القليل من الناس عن هذه الأهداف، أما اليوم فهي مصطلح متداول على كل لسان".
وقد انعكس هذا التوجه على إنفاق مختلف الجهات المعنية. ففي الفترة ما بين عامي 2010 و2015 بلغ الحجم الإجمالي لإنفاق المؤسسات الخيرية على المبادرات العالمية المتوافقة مع أهداف التنمية المستدامة نحو 34 مليار دولار. لكن خلال السنوات الثلاث الأولى بعد الإعلان الرسمي عن الأهداف، ارتفع معدل هذا الإنفاق ليصل إلى 39.8 مليار دولار في العام الواحد، وذلك وفق احصاءات موقع SDGfunders.org الذي يرصد هبات المانحين للقضايا المتوافقة مع أهداف التنمية المستدامة، والذي يتم تمويله من قبل مؤسسة كونراد هيلتون، ومؤسسة فورد، ومؤسسة ماستركارد.
وعلى الرغم من حجم هذا الإنفاق، لا تزال الموارد المالية المطلوبة لتحقيق أهداف التنمية المستدام بحلول 2030 تزيد عن 2.5 تريليون دولار، ولا شك أن تداعيات جائحة كوفيد-19 ستؤدي إلى زيادة في المبلغ المطلوب. وهنا تكتسب ريادة العطاء والمانحون دوراً مهماً في تخفيف حدة العجز، هذا من وجهة نظر صانعي السياسات – والذين ينصب اهتمامهم ليس على التمويل فحسب، بل على الحلول المعطلة للأنماط التقليدية في مواجهة المشاكل الاجتماعية والبيئية والاقتصادية كذلك – والتي تعجز الحكومات عن حلها لوحدها.
ويرى بدر جعفر، الرئيس التنفيذي لشركة الهلال للمشاريع وراعي مركز ريادة العطاء الاستراتيجي الذي افتتح مؤخراً ضمن كلية جادج لإدارة الأعمال في جامعة كامبريدج، أن الأموال الخيرية في الشرق الأوسط يجب أن تتمحور حول أهداف التنمية المستدامة، فيقول: "عندما توجه الأموال الخيرية لملء الفراغ في السوق، ويكون اهتمامها مركّزاً وعملها قابلاً للقياس والتوسيع، يمكنها حينها إحداث تغيير جذري".
08.
الجيل القادم
سوف تنتقل ثروات طائلة خلال العقد القادم من الزمن من جيل الآباء إلى جيل أبنائهم الشباب، وهي تقدّر بنحو 15.4 تريليون دولار على مستوى العالم، وفق شركة 'ويلث إكس' العالمية للاستشارات التي تختص بجمع وتحليل البيانات. في منطقة الخليج، حيث تشكل المكاتب والمؤسسات العائلية الجزء الأكبر من مشهد العطاء، سيكون لهذا التحول أثر كبير على نطاق واسع.
ومع استلام الجيل الجديد لمقدرات ثروات أسرهم، يمكننا توقع المزيد من الشفافية حول توزيع الموارد للمشاريع الخيرية والاجتماعية وأيضاً زيادة الوعي حول أهمية قياس الأثر وتحديد المخرجات.
وتقول كلير وودكرافت، الرئيس التنفيذي السابق لمؤسسة الإمارات والرئيس التنفيذي الحالي لمركز ريادة العطاء الاستراتيجي في جامعة كامبريدج والمدعوم خليجياً: "إن رواد العطاء العرب والشباب العرب بشكل عام يمتلكون حسّاً قوياً بالمسؤولية الاجتماعية وريادة الأعمال الذي ربما لم تمتلكه الأجيال السابقة".
وتضيف قائلة: "اليوم نرى كيف يقف الجيل الثاني، وحتى الثالث، وكأنهم يقولون لآبائهم المؤسسين أن الطريقة التي يرغبون بمنح الأموال الخيرية فيها ستكون مختلفة عما كانت عليه في الماضي. إنهم ينظرون في نماذج تتصف بقدر أكبر من ريادة الأعمال. وهذا توجه ملفت للنظر ويثير الحماس بالنسبة للمنطقة".
ويقول محمد رافي حسين، وهو اختصاصي بتقنيات التمويل الإسلامي في دبي يعمل حالياً على تطوير منصة جديدة للعطاء بالتعاون مع الصندوق العالمي، أنه يعتقد أن انتقال زمام الثروات من جيل المسنّين إلى جيل الشباب في المكاتب العائلية سوف يخلق آفاقاً جديدة لعطاء ذات جودة أعلى، فيقول: "إن الجيل الجديد متوائم أكثر ويمتلك وعياً أكبر بمفهوم الجودة في العطاء والقياس الاستراتيجي للأثر".
أما ميرنا عطالله، المدير التنفيذي للفنار، وهي أول منظمة تختص بالعطاء المغامر في المنطقة والتي تستخدم التكنولوجيا والتحليل الذكي للأعمال لكي ترصد الأثر، فقد أشارت أيضاً إلى التغيير المتنامي، قائلة: "كان حافز عمل الخير لدى الجيل القديم هو الهدف من عطائهم، أما الجيل الجديد فحافزه الأهم هو الأدوات والأساليب".
09.
الأهداف الخضراء
مع استمرار تصدّر مشاكل التغير المناخي الأجندات العالمية، نتوقع أن تأخذ شؤون البيئة حيزاً لها ضمن اهتمامات رواد العطاء العرب والشركات.
أصبحت الطاقة المتجددة تلقى دعماً قوياً داخل حكومات دول الخليج. فقد أعلنت الإمارات العربية المتحدة التي تستضيف مقر الوكالة الدولية للطاقة المتجددة (ايرينا) مؤخراً عن مبادرة أبوظبي للمناخ، وهي حملة تسعى إلى جمع التكنولوجيا والابتكار للتعامل مع التغير المناخي. أما صندوق أبوظبي للتنمية الذي يتم تمويله من قبل الحكومة، فقد قام لغاية اليوم بتمويل مشاريع للطاقة المتجددة حول العالم بما تزيد قيمته عن 4 مليارات دولار.
في هذه الأثناء، باشر صندوق التنمية الصناعية السعودي بتوفير قروض لمشاريع الطاقة النظيفة، كما أعلنت أيضاً حكومة المملكة العربية السعودية عن عدة مبادرات جديدة في مجال الطاقة المتجددة تهدف إلى تقليص اعتماد المملكة على النفط.
لكن على الرغم من هذه الريادة على مستوى الحكومات، لم تبدي الشركات في المنطقة لغاية اليوم اهتماماً يذكر في قضايا البيئة. ووفق دراسة مسحية أجرتها شركة Sustainable Square الاستشارية، شاركت بها 1,500 شركة في 18 بلداً في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، فإن ما نسبته لا تتجاوز 11 بالمئة منها أفادت بأن قضية البيئة هي ضمن أولويات عملهم في مجال المسؤولية الاجتماعية. لكن مع استمرار تدفق التقارير حول الكوارث أو الأزمات المرتبطة بتغير المناخ حول العالم، خاصة تلك التي تصيب العالم العربي وجواره مثل شحّ المياه والجفاف وما يسببه من نزوح للمجتمعات المحلية، فمن المتوقع أن يزداد الضغط على المانحين لإعادة النظر في أولوياتهم. كما أتت جائحة كوفيد-19 لتسلط الضوء بقوة على أهمية تنسيق استجابة عالمية لمختلف التحديات التي لا تعرف حدوداً جغرافية أو سياسية مثل التغير المناخي والأمراض.
التغيير في العقليات والمواقف قادم لا محالة. فقد أشار تقرير نايت فرانك للثروات لعام 2020 الذي نُشر في مارس، إلى أن ما يقارب من 75 بالمئة من أثرى الأثرياء في منطقة الشرق الأوسط "بدؤوا يشعرون بالقلق حول أثر تغير المناخ". وأن أكثر من نصف المشاركين في الاستبيان أفادوا بأنه من منظور العلاقات العامة، هم يشعرون "بأهمية أن يظهروا للعلن بأنهم يتخذون خطوات للتعامل مع مشاكل التغير المناخي".
ووفق تقريرها للعام 2020، أفادت شركة الاستشارات الإدارية 'أوليفر وايمان' بأن التقاعس في اتخاذ خطوات جدية تجاه التغير المناخي سوف يكلّف العالم نحو 26 تريليون دولار بنهاية العام 2030 – وهو مبلغ يزيد عن عشرة أضعاف كلفة الـ 2.5 تريليون دولار المطلوبة لتحقيق أهداف التنمية المستدامة على مدى العشرة أعوام القادمة، ما يؤكد على الأهمية القصوى للاستثمار الاستباقي قبل وقوع الكارثة.
10.
الجمع ما بين العمل التجاري والخيري
وبنهاية المطاف تأتي ريادة الأعمال الاجتماعية التي يتوقع أن تزدهر خلال العشر سنوات القادمة. واليوم تستضيف دول الشرق الأوسط عدداً متنامياً من المبادرات التي تسعى للترويج للمشاريع الاجتماعية الناشئة، وتوفر غالبيتها خدمات الاحتضان لهذه المشاريع.
وتشمل هذه المبادرات 'رايز إيجيبت' التي تعرّف نفسها كمؤسسة فكرية، وهي تساعد المشاريع الاجتماعية التي بلغت طور النمو في التوسع من خلال ربطها مع مستثمرين وشبكات علاقاتها. وفي المملكة العربية السعودية، توفر مؤسسة الملك خالد مساراً لريادة المشاريع الاجتماعية يتضمن المنح المالية وخدمات الارشاد والاحتضان الكامل للرواد الطامحين إلى تحويل أفكارهم إلى مشاريع مؤثرة اجتماعياً.
وتستضيف دبي المشروع الاجتماعي 'كونسلت أند كوتش فور أيه كوز' (C3) الذي كان عند تأسيسه في عام 2012 يوفر خدمات الدعم للشركات الناشئة والمشاريع الصغيرة والمتوسطة الحجم، لكنه تطور فيما بعد ليلعب دور المسرّع لمشاريع الأثر الاجتماعي بدعم من البنك البريطاني العالمي 'إتش إس بي سي'. وكان الطلب يتزايد على خدمات المشروع عاماً بعد عام. وفي دورتها التسريعية الأولى التي عقدت في عام 2017 بلغ عدد طلبات المشاركة 40 طلباً تنافست على ستة مقاعد، أما في عام 2020 فقد ارتفع عدد الطلبات إلى 600 طلب من ثماني دول.
وتعلق ميديا نوسنتيني، المؤسس المشارك والرئيس التنفيذي لمشروع C3 بقولها أن نمو المشروع كان مذهلاً، وأن شركات رأس المال المغامر كانت تبدي اهتماماً متزايداً بأنشطة وفعاليات C3 بحثاً عن مشاريع قد ترغب بتمويلها. وتختتم بقولها: "لقد أصبح المستثمرون اليوم يدركون تماماً أن المشاريع الاجتماعية توفر أيضاً فرصاً ذات جدوى تجارية".