'صورة واحدة قد تغير حياة إنسان'
الشيء الوحيد الذي تعلمته من الحرب هو أن الجميع يدفع ثمنها. نتعلم في المدارس عن تاريخ الصراعات؛ مثل تواريخ اندلاعها وانتهائها، وعدد الضحايا، لكن لا نتعلم شيئاً عن آثارها البعيدة المدى. هذا على الرغم من أن الحرب تخلف ندوباً جسدية ونفسية قد لا تلتئم على مدى حياة الذين عاشوا في ظلها، وأطول من ذلك أحياناً. فوقع الحرب قد يترك صداه عبر الأجيال.
أصبحت مصوراً فوتوغرافياً بمحض الصدفة. فعندما كنت في الثامنة عشر من العمر وقع لي حادث حرمني من ممارسة الرياضة التي كانت حينها تمثل لي كل شيء في الحياة. وفي الوقت الذي كنت فيه لا أزال أتلقى العلاج في المستشفى توفي جدّي الذي ترك لي كاميرا وكتاباً يحتوي على مجموعة صور للمصور الحربي، دون ماكالين. كنت أتصفح الكتاب وأنا مستلقٍ على سريري في المستشفى. كانت صوراً واقعية معبرة بالأبيض والأسود عن حرب فيتنام والمجاعة في بنغلاديش والحرب في بيافرا، وغيرها. أثرت في تلك الصور وشدتني إليها حتى توصلت إلى قناعة بأن التصوير هو فعلاً ما أرغب بفعله في حياتي.
خلال فترة علاجي في المستشفى علّمت نفسي بنفسي فن التصوير، وعندما بلغت منتصف العشرينات من عمري أصبحت مصوراً محترفاً متخصصاً بحفلات موسيقى الروك، أسافر حول العالم لتصوير الفرق الموسيقية وعروض الأزياء. حققت النجاح في عملي هذا وجنيت الكثير من المال، لكن مع مرور السنين وجدت نفسي أفتقد للسعادة أكثر فأكثر، بل بدأ يتملكني شعور بالاكتئاب، وأصبحت نظرتي ساخرة من كل عالم الأضواء والنجومية.
كانت نقطة التحوّل الثانية في حياتي في العام 2002، خلال جلسة تصوير في أحد الفنادق. أذكر أنني رميت الكاميرا على السرير في غرفتي، لكنها ارتدت وخرجت من النافذة بجانب السرير، وطبعاً تحطمت. في تلك اللحظة شعرت بأن حياتي المهنية قد انتهت، لكنني تدريجياً بتّ أفكر بما يمكنني تحقيقه إن استخدمت مهاراتي في إنشاء ملف من الصور يحكي القصص التي لم يروها أحد من قبل عن الناس المغلوب على أمرهم الذين وجدوا أنفسهم محتجزين في قلب صراع دموي؛ فقد أكون قادراً على جعل أصواتهم الضعيفة تُسمع بقوة ووضوح ــ أي أن أصبح شبيهاً بالناشط، لكن من خلال الصور التي ألتقطها. بدت الفكرة معقولة وجيدة، وكانت هذه البداية الفعلية لحياتي المهنية الثانية، كمصور وثائقي.
خطرت ببالي فكرة مشروع "Legacy of War" [إرث الحرب] أول مرة في العام 2011. كنت في ذلك الوقت أعمل مع منظمات غير حكومية ومؤسسات خيرية، مثل منظمة "طوارئ" الإيطالية، وأطباء بلا حدود، وغيرها، لكي أساعدهم بالصور في رواية القصص والأحداث التي يشهدونها. أنا لست ما يسمى بـ "مصور حربي"، بل على العكس، أنا مصور "ضد الحرب". فاهتمامي كان دائماً يدور حول ما تكون عليه الدول بعد انتهاء الحرب فيها. وكانت خطتي تتلخص في توثيق حصيلة الحرب على المدنيين والإرث الطويل الأمد الذي تخلفه بعد انتهائها - سواء كان هذا في إطار النزوح والتشرد، أو الجروح النفسية والجسدية - بهدف نشر هذه القصص، أملاً بأن تساهم هذه الصور في تغيير الطريقة التي نتحدث فيها عن النزاعات المسلحة. فالعبرة هي أنه أينما تواجد هؤلاء الناس، سواء في كمبوديا أو رواندا أو أيرلندا الشمالية أو سوريا، فإن التجربة التي يعيشها الناس الذين تأثروا بالحرب هي دائماً ذاتها، وتبقى ذات المعاناة في الجوهر. فذات المأساة تطال الإنسان أينما وجد.
كان يفترض أن تكون أفغانستان أول وجهة في مشروعي. هناك تم ضمي إلى وحدة من الجيش الأميركي في قندهار، إذ قررت حينها أن أعمل على تحقيق مصور عن أثر الحرب على الجنود. شعرت أنه من المهم تغطية جميع أطراف النزاع، ولكي أوثق كيف يمكن أحياناً أن يصبح المقاتلون أنفسهم ضحايا الحرب.
ثم في صباح يوم ما وبينما كنت أرافق إحدى الدوريات، وطأت قدمي لغماً. كان شعوري في اللحظات الأولى انذهال تام؛ كنت أذكر الانفجار واندفاعي في الهواء، ثم انتابني الخوف من الموت المحقق. كانت قدماي قد أقتلعتا كلياً - كنت أرى أجزاءً منهما وقد تناثرت على أغصان الشجرة فوقي - بينما أصبحت يدي اليسرى أشلاء. غمرني في تلك اللحظة شعور قوي، وهو أن أبقى على قيد الحياة لدقيقة أخرى، ثم لخمس دقائق أخرى. وكنت ما أزال واعياً عندما أدخلوني إلى غرفة العمليات.
أجريت لي 37 عملية جراحية خلال العام الأول. بعد ذلك بأربعة شهور استطعت أن أجلس في السرير من دون مساعدة، وبعد سنة واحدة ابتدأت أتعلم كيف أمشي مرة أخرى. لم يكن لدي شك بأنني سأستعيد حياتي السابقة؛ كان هذا دائماً في ذهني، كنت فقط مستاءً من طول المدة التي تطلبها علاجي. وبعد انقضاء 18 شهراً كنت قد عدت إلى أفغانستان أبحث عن اللقطات المميزة. والسؤال: هل وضعي الجديد صعب؟ فالجواب هو أنني أعاني من الألم كل يوم، وهو أمر مرهق. لا أتمتع بسهولة التحرك مثلما كنت في السابق؛ ولا أستطيع أن أركض أو أركع ــ لكن ما زال لدي شيء أقدمه في حياتي.
"إن أفضل الصور ليست تلك التي تؤخذ بل التي تمنح".
"لكل أسرة قصتها الخاصة، وكل قصة تجد من يتعاطف معها".
في العام 2015، اتصلت بي المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين من أجل تكليفي بمهمة تصوير، وما طرحوه علي قد يكون أروع موجز لمهمة يمكن أن يتلقاه مصور، إذ قالوا لي "اتبع قلبك". أمضيت السبعة شهور التالية أتنقل ذهاباً وإياباً بين أوروبا والشرق الأوسط؛ من شواطئ ليسبوس إلى لبنان والأردن والعراق، حيث تتبلور الأزمة الحقيقية، بحثاً عن القصص واللقطات المميزة.
تغمرك المعلومات عندما تبحث عن القصص بين ملايين اللاجئين الهاربين من الاقتتال، إذ أن لكل أسرة قصتها الخاصة، وكل قصة تجد من يتعاطف معها. من وجهة نظري كمصور، تهمني كثيراً مظاهر الألفة والعلاقة الدافئة بين الأفراد، مثل مشهد أبٍ يملّس شعر ابنته بالفرشاة أو أم تعد وجبة طعام لأولادها. تلك اللحظات العابرة هي ما يرمز لإنسانيتنا المشتركة. وعندما تتعاظم أهوال الحرب وتطغى على كل شيء آخر، نغفل عن هذه اللحظات الحميمة. يتعلق معظم عملي بالتذكير بأوجه الشبه القوية بين مختلف البشر؛ فلا فرق في الجوهر إن كنت تسكن في مخيم للاجئين أو في شقة فاخرة، لأن المشاعر التي تكنها لأحبائك وطريقة التعبير عنها تبقى عموماً متطابقة.
وقد أصبحت العديد من الأسر التي قابلتها في المخيمات جزءاً من حياتي. فهناك، على سبيل المثال، شمّة، اللاجئة السورية في التسعينات من عمرها التي كانت تعيش في ظروف صعبة جداً في الأردن؛ عندما دخلتُ إلى مخيمها لأول مرة، نظرت إلي وهي تهز بإصبعها كأنها تقول لي "نحن لا نريد مصورين هنا" - وهذا شيء لم أكن سأجادل فيه. وعلى كل حال، أمضيت البضعة أيام التالية أتعرف على سكان المخيم وأتحدث معهم، وبالنهاية طلبت منهم أن يساعدوني في نصب ستارتي البيضاء التي استخدمها كخلفية لتصوير اللاجئين.
كنت قد أدرت ظهري للستارة وأنا أعدّ الكاميرا تحضيراً لجلسة التصوير، وعندما التفتّ فوجئت بشمّة وهي تقف أمام الستارة استعداداً لالتقاط صورتها. وكانت شمّة أول شخص أصوره في المخيم. وكما يقال، فإن أفضل الصور ليست تلك التي تؤخذ بل التي تمنح. وبعد مرور عدة شهور كنت قد بعت طبعة من الصورة، وأرسلت النقود ثمن الصورة لشمّة لكي تشتري جهازاً يساعدها على السمع، إذ كانت بحاجة ماسة له. وهكذا، عادت تلك الجلسة التصويرية ببعض الفائدة عليها بالنهاية.
وفي العام 2014 التقيت بخلود التي كانت تعيش برفقة زوجها وأطفالهما الأربعة في خيمة بدائية خالية من النوافذ في وادي البقاع في لبنان. خلود مقعدة إثر إصابتها برصاصة قناص سببت لها شللاً في كل جسدها أسفل الرقبة، فلا يمكنها الحركة أو مغادرة السرير، وزوجها يهتم برعايتها على مدار الساعة.
ولدى عودتي في العام 2016 قدمت لها صورة كنت قد التقطتها لزوجها يجلس على طرف السرير وهو يمسك يدها، وذلك خلال زيارتي السابقة. كانت صورة جميلة تعبّر عن قوة الحب. لكن بعد مرور سنتين على تلك الصورة لاحظت أن ما من شيء فيها قد تغير؛ كان حالهم وظرفهم تماماً كما كان عليه سابقاً. غلبت عليّ في تلك اللحظة مشاعر الأسى والإحباط، ووجدت نفسي أذرف الدموع وأنا أعترف لهما بأنني قد فشلت بمساعدتهما في تحسين أوضاعهما لأنه ما من شيء قد تغير عليهما.
لكن القوة الكامنة في أية صورة قد تكون عظيمة. فقد شاركتُ تلك الصورة مع مؤسسة خيرية أميركية تدعى "راندوم آكتس"، التي استخدمتها في حملة تمويل جماعي. وفي غضون أسبوعين فقط تمكنت الحملة من جمع نحو ربع مليون دولار. إثر النجاح الباهر لهذه الحملة تمكنّا في بداية هذا العام من نقل خلود إلى مسكن جديد في لبنان تم تعديله ليسمح باستخدام كرسي متحرك يمكّنها من التنقل داخل البيت. ويحتوي البيت على حديقة أيضاً. إن رؤيتها مع زوجها، وأطفالهما يلهون ويلعبون حولهما، هو حقاً مشهد رائع يستحق الجهود التي بُذلت.
هذا مثال على ما يمكن أن تحققه صورة واحدة تكشف عن قصة مؤثرة خلفها، وأنا أعتز بأنني قادر على أن أروي مثل هذه القصة. وبالفعل، فإن صورة واحدة قد تغير حياة إنسان. — PA