'المساعدة الإنسانية أسمى من أن تكون مجرد وظيفة'
تترك كل استجابة لكارثة أثراً في نفسي – سواء إدخال المساعدات إلى اليمن أو سوريا؛ أو تسونامي إندونيسيا، حيث كان حجم الكارثة يفوق الخيال لدرجة أنه لا يفارق مخيلتي حتى اليوم؛ أو إعصار هايان في الفلبين عام 2013، حيث واصلنا العمل لخمسة أيام دون نوم، ونحن ننسق رحلات جوية متتالية من دون توقف.
كما لن أنسى ذلك الاتصال الهاتفي الذي وجدته في هاتفي من رقم لا أعرفه، كان قد فاتني الرد عليه في خضم أيام من العمل المضني. وعندما عاودت الاتصال، كنت أتوقع أن يكون المتصل أحد العاملين في مكتبنا، لكنه كان رقم شخص تلقى حزمة من أدوات للنظافة الشخصية ووجد معها رقم هاتفي. وعلى الرغم من أن الهدف من إرفاق الرقم هو التواصل في حال وجود مشكلة، إلا إنه اتصل بي خصيصاً ليشكرني.
من المهم أن نفهم أن المساعدة الإنسانية أسمى من أن تكون مجرد وظيفة. نحن مسؤولون بصورة مباشرة عن حياة الآخرين، وغالباً ما نضطر لاتخاذ قرارات حاسمة في ظروف صعبة. فإذا فشلنا في توفير مياه الشرب العذبة أو الأدوية أو الأغذية مباشرة عندما تبرز الحاجة إليها، فإننا قد نعرض الناس لخطر الموت. هذه المسألة تشغل تفكيري على الدوام.
التحقت بهذا المجال في العام 2004، عندما كنت أبلغ من العمر 26 عاماً وقد كنت قد وصلت لتوي إلى دبي. كانت شركة الخدمات اللوجستية التي كنت أعمل بها آنذاك قد تعاقدت لتوصيل إمدادات إغاثة لجميع أنحاء إندونيسيا في أعقاب كارثة تسونامي، ولم تكن المهمة سهلة. فخطوط الاتصال مقطوعة، وآلاف الأشخاص بلا طعام وماء وأدوية، وكان عليّ الإشراف على نقل 50 حاوية من دبي في غضون ثلاثة أيام. وهكذا، أدركت سريعاً أنها المهنة التي أرغب في ممارستها. وفي عام 2010، التحقت بشركة دي إتش إل، وعندما افتتحت الشركة المركز التخصصي للخدمات اللوجستية الإنسانية في دبي عام 2019، تم تكليفي بإدارته.
اعتبر مكتبنا في دبي بمثابة "برج مراقبة" لجميع عملياتنا حول العالم. فمن هنا، نعمل مع وكالات الأمم المتحدة والمنظمات غير الحكومية والحكومات والشركات الخاصة، فضلاً عن إدارة مركزنا اللوجستي ومخزونات الطوارئ. وعندما تحتاج إحدى هذه المنظمات إلى تسليم إمدادات طارئة، نتعاقد معها لتنفيذ المهمة.
كما نقدم الدعم من خلال خدمات لوجستية إضافية، مثل توصيل الطلبات عبر 'الميل الأخير'. على سبيل المثال، نقوم في جمهورية الكونغو الديمقراطية بنقل الأدوية لعلاج الأمراض المدارية المهملة في 20 موقعاً في جميع أنحاء البلاد. إنها مهمة صعبة للغاية ننفذها براً في الغالب، لعدم وجود إلا القليل من الرحلات الجوية الداخلية.
"نحن مسؤولون بصورة مباشرة عن حياة الآخرين، وغالباً ما نضطر لاتخاذ قرارات حاسمة في ظروف صعبة".
توحيد الجهود
عندما تقع الكوارث وتتدفق المساعدات، تصبح المطارات والموانئ عنق الزجاجة بالنسبة للإمدادات، مما يعيق الجهود المبذولة لإيصال المؤن في الوقت المناسب إلى من هم في أمسّ الحاجة إليها. ولذلك تتعاون وكالات الإغاثة مع الشركات الخاصة للاستفادة من خبراتها وقدراتها بهدف بناء شبكات إمداد أفضل.
وفي عام 2009، كانت شركة دي إتش إل في دائرة الضوء إعلامياً عندما عقدت شراكة مع برنامج الأمم المتحدة الإنمائي لإطلاق مبادرة 'رفع جهوزية المطارات في مواجهة الكوارث' أو 'غارد' (GARD) وهي شراكة مبتكرة بين قطاع الإغاثة والقطاع الخاص.
وكان مطارا ماكاسار وبالو في إندونيسيا من أوائل المطارات التي تلقت التدريب في إطار مبادرة 'غارد'، وخلال أحد عشر عاماً، شارك 40 مطاراً آخر وتم تدريب أكثر من 1,200 شخص في ورش العمل التي نظمت تحت مظلتها.
"قمنا بتوصيل المساعدات إلى مناطق الحروب، والمجتمعات المتضررة من الزلازل، ومناطق استيطان الإيبولا وغيرها".
تتبع استجابتنا للكوارث في العادة نمطاً شبه ثابت. نتحقق أولاً من مكتبنا المحلي من حالة المطار أو الميناء أو الطرق، ومن ثم نضع خطة عمل طارئة وفقاً لذلك. في حال وقوع كارثة طبيعية، وإذا طلبت الأمم المتحدة منا ذلك، فإن لدى دي إتش إل فريق استجابة للكوارث يمكنه الوصول إلى أي منطقة في غضون 72 ساعة. والفريق عبارة عن شبكة عالمية مكونة من 500 متطوع مدرب يتم إرسالهم لإدارة الإمدادات الواردة إلى المطارات، وتقديم تقارير يومية تتم مشاركتها مع العديد من المنظمات.
وفي حالة الكوارث الكبرى، يتحول المكتب إلى خلية نحل، ولكل فردٍ دوره الذي يعرفه ويجيده. يمكننا تعبئة ما يصل إلى 300 طن من المساعدات في يوم واحد، ويمكن للرحلة الواحدة حمل 90 طناً. وعندما تكون الظروف سيئة للغاية بحيث تعيق الوصول براً إلى المجتمعات المتضررة، فإننا نستخدم ما نسميه 'الأقراص المنشطة'؛ أي توزيع إمدادات الطوارئ جواً في أكياس خاصة من البولي بروبلين يتم اسقاطها عبر طائرات الهليكوبتر.
لقد قمنا بتوصيل المساعدات إلى مناطق الحروب، والمجتمعات المتضررة من الزلازل، ومناطق استيطان الإيبولا وغيرها. في سوريا، كنا متواجدين على الأرض منذ اندلاع الحرب في عام 2011. كان عملنا هناك محفوفاً بالمخاطر ويقتضي منا مواكبة المتغيرات لحظة بلحظة، لا سيما فيما يتعلق بإغلاق الحدود. فهناك نحن نتعامل فعلاً مع المجهول، وقد سمعنا قصصاً عن خطف وتفجير شحنات المساعدة. كنا في البداية ننقل المساعدات جواً، لكننا لم نكن لنضمن سلامة طائراتنا، لذلك تحولنا إلى نقلها براً. ثم كان علينا تغيير ذلك النمط، تحاشياً لعمليات الاختطاف. وتحولنا بعد ذلك إلى الشحن البحري عبر ميناء اللاذقية، لكننا ما زلنا مقيدين بالموافقات. وهناك بعض أجزاء من البلاد يستحيل الوصول إليها، كإدلب على سبيل المثال.
وفي اليمن، كان إيصال المساعدات بنفس الصعوبة. ففي عام 2015 أمضينا أياماً نحاول أن نحدد الجهة التي يمكن التواصل معها لتوصيل المساعدات، ولكن استحال على أي من قنواتنا المعتادة تقديم العون. لذا، بدأت في التعامل مباشرة مع مسؤولي قوات التحالف التي تسيطر على المجال الجوي، الذين عرضوا علينا مهلة زمنية صغيرة مدتها ساعتين للهبوط والتفريغ والمغادرة مرة أخرى. وبعد مفاوضات، تمكنت من زيادة المدة لتصل إلى أربع ساعات، وظل الجميع يتابع الرحلة الأولى لحظة بلحظة آملين أن تسير الأمور على ما يرام. وقد تنفسنا الصعداء عندما حلقت الطائرة في طريق عودتها بعد إنجاز مهمتها.
ومع تفشي جائحة كوفيد-19، تعرفنا على تحديات جديدة، وكنا بالفعل في خضم الاستجابة الكثيفة. في الظروف العادية تؤثر الكارثة على دولة أو دولتين في الآن نفسه، لكن تفشي فيروس كورونا شكل حالة طوارئ عالمية ومستمرة. نحن نعمل بأقصى طاقتنا منذ فبراير الماضي، ولا يبدو أن هناك مهلة لالتقاط الأنفاس عما قريب.
تتعامل العديد من الدول اليوم مع الموجة الثانية من تفشي الفيروس المسبب لكوفيد-19، ما يعني أن هناك زيادة في الطلب على وسائل الحماية الشخصية. نقوم بنقلها على متن رحلاتنا الخاصة من الصين أو أوروبا إلى دول الشرق الأوسط، ومن هنا نوزعها إلى وجهات مختلفة، خاصة في أفريقيا. لدينا أسطول طائرات مخصص من خلال خدمة DHL Aviation، ولكننا نعتمد كذلك على شراكات مع شركات الطيران العالمية لضمان عدم تأثرنا بأي نقص في الرحلات الجوية.
بالإضافة إلى الجائحة، لا تزال جهود الطوارئ الأخرى مستمرة. فما زلنا نعمل في مناطق تفشي الملاريا والأمراض المدارية المهملة وفيروس نقص المناعة المكتسبة (الإيدز) ومناطق الصراعات المسلحة في سوريا واليمن ومناطق استيطان الإيبولا في جمهورية الكونغو الديمقراطية وغيرها، فنحن بحاجة إلى توصيل المساعدات والأدوية إلى هذه الأماكن. ولكن بسبب الجائحة، نواجه عقبات عديدة منها إغلاق الحدود والتأخيرات الجمركية والاضطراب القائم في قطاع الطيران عموماً. إنها أشد البيئات التي عملنا فيها صعوبة وتحدياً لكافة العمليات الإنسانية. لم نكن ندرك من قبل مدى السلاسة التي كانت تنتقل بها شحناتنا عبر الحدود. أما اليوم، فتتجاوز مهمتنا مجرد الانتقال من نقطة إلى أخرى، واصبحت تتعلق أيضاً بإيجاد الحلول لمختلف ما يستجد من عقبات.
كان من غير المألوف في السابق أن ترى امرأة تعمل في هذا المجال. حضرت اجتماعات كنت فيها المرأة الوحيدة، وأحياناً كنت أدخل أحد المستودعات فيظن من فيه أنني قد ضللت طريقي. ولكن الحال تغير اليوم. أصبحت النساء تعمل أكثر فأكثر في مجال الخدمات اللوجستية والمساعدات الإنسانية.
أدرك تماماً بأننا نحن، العاملون في المكاتب، محظوظون كوننا نعيش في أمان مقارنة بزملائنا العاملين في ظل المخاطر الميدانية في سبيل العمل الإنساني. نحن ندين لهم بالكثير، فهم يواجهون مختلف المخاطر كالعنف والصراع والعدوى. إنهم يبذلون جهوداً كبيرة في الميدان لكي يوفروا لنا المعلومات، إذ يلتقون بالأشخاص المعوزين كل يوم ويتحدثون إليهم ويتواصلون معهم وجهاً لوجه. ولكننا حلقة الوصل التي تربط بين كل جوانب هذا العمل. – PA