مؤسسة جديدة من دولة الإمارات تأمل في عولمة الجهود للقضاء على الأمراض المدارية المهملة.
المرحلة
الحاسمة
تُعدّ الأمراض المدارية؛ مثل العمى النهري، وداء الفيلاريات اللمفاوية، ودودة غينيا، سبباً في وفاة أو عجز أو تشوه ما يربو على 1.7 مليار شخص حول العالم. وهي عائق أمام التحاق الأطفال بالمدارس والكبار بسوق العمل، وتبقي بعض المجتمعات الأشد تهميشاً في دائرة مفرغة من الفقر والمعاناة.
وفي إطار جهود التصدي للآثار المدمرة لتلك الأمراض المنهكة والتي تستنزف الطاقات البشرية للمجتمعات المحلية - على الرغم من أنه يمكن تجنبها والوقاية منها - تأسست مؤسسة صحية جديدة في دولة الإمارات العربية المتحدة، بدعم من سمو ولي عهد أبوظبي ومؤسسة بيل وميليندا غيتس. وتستهدف المؤسسة تسريع الجهود العالمية لمكافحة ما يسمى بالأمراض المدارية المهملة، والقضاء عليها في نهاية المطاف.
هكذا تم الإعلان عن تأسيس المعهد العالمي للقضاء على الأمراض المعدية (غلايد) في العام 2017، بتمويل أولي قدره 20 مليون دولار، لكن المعهد لم يبدأ العمل فعلياً إلا في أواخر العام 2019، عقب تعيين سايمون بلاند في منصب الرئيس التنفيذي.
وسوف تتمحور مهام المعهد حول ثلاثة مجالات تركيز رئيسية وهي تعزيز الوعي المجتمعي إزاء الأمراض المؤلمة، من قبيل العمى النهري وداء الفيلاريات اللمفاوية (داء الفيل)، والنهوض باستراتيجيات وأساليب القضاء على الأمراض، وتعزيز تآزر جهود المنظمات الدولية الرائدة والخبرات الميدانية في الدول المعنية بغية تبادل المعارف والخبرات.
في البداية، سينصب تركيز 'غلايد' على القضاء على العمى النهري وداء الفيلاريات اللمفاوية، لكنه سوف يدعم أيضاً الجهود الأوسع نطاقاً للقضاء على مرض شلل الأطفال وتقليص حجم حالات الإصابة بالملاريا في العالم.
والعمى النهري (onchocerciasis) والمعروف أيضاً بمسمى داء المذنبات الملتحية، هو مرض يصيب العين والجلد وينتشر عن طريق لدغات ذبابة سوداء تنقل الطفيلي المسبب للمرض. وينتشر العمى النهري بشكل رئيسي في المناطق المدارية، وتنحصر 99 بالمئة من الإصابات في قارة أفريقيا.
أما داء الفيلاريات اللمفاوية (lymphatic filariasis)، والذي اشتهر بمسمى داء الفيل، فيسبب تورماً مؤلماً ومشوهاً للأطراف بدرجة قد تؤدي إلى إعاقة دائمة. وعادة ما تحدث الإصابة بهذا المرض الدودي الذي ينقله البعوض في مرحلة الطفولة، مما يتسبب في تلف غير ظاهر للجهاز اللمفاوي، ولكن يمكن القضاء عليه عن طريق وقف انتشار العدوى بالاستعانة بالعلاج الكيميائي الوقائي.
ويقول بلاند، وهو خبير اقتصادي إنمائي عمل سابقاً في وزارة التنمية الدولية بالمملكة المتحدة، وأدار مؤخراً برنامج الأمم المتحدة المشترك لفيروس نقص المناعة البشرية (الإيدز): "همنا الحقيقي هو رفع المعاناة. لو استمعت إلى المصابين بداء الفيل مثلاً، لعرفت أنهم يعانون من وصم وتمييز المجتمع ضدهم، فلا تقتصر معاناتهم على الآلام المبرحة التي يسببها المرض، بل على الكثير من حالات العجز عن العمل وفقدان القدرة على العيش بطريقة منتجة".
ويصف بلاند تلك الحالات بأنها "أمراض الفقر القديمة"، ويقول: "لن نتقبل فكرة وجود مثل هذه الأمراض في مانهاتن أو سَري، على سبيل المثال، فلماذا نتهاون مع انتشارها في أفريقيا؟ في الماضي، عاش الكثيرون بهذه الأمراض الرهيبة، عن جهل بأسبابها وبغير دراية بقدرتنا على القضاء عليها إلى الأبد".
تُعدّ مؤسسة 'غلايد' أحدث إسهامات صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان في إطار التزامه الدائم بدعم جهود القضاء على الأمراض المدارية المهملة وإنهاء معاناة البشر جسدياً واقتصادياً جراء شلل الأطفال والملاريا.
ولغاية اليوم، تجاوز حجم مساهمة سمو ولي العهد 250 مليون دولار خصصها لقضايا الصحة العالمية، مقتدياً في ذلك بإرث الوالد المؤسس، سمو الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان. فقد كان سمو الشيخ زايد من أهم المتبرعين لمركز كارتر، المؤسسة التي أنشأها رئيس الولايات المتحدة السابق جيمي كارتر، في حملته للقضاء على مرض دودة غينيا.
وفي عام 2017، ومن خلال شراكة مع مؤسسة بيل وميليندا غيتس، أعلن سمو ولي العهد عن إطلاق 'صندوق بلوغ الميل الأخير'، وهي مبادرة رائدة بقيمة 100 مليون دولار للقضاء على الأمراض المدارية المهملة في سبع دول خلال 10 سنوات.
ويقوم 'صندوق بلوغ الميل الأخير'، هو مؤسسة غير ربحية مقرها الولايات المتحدة يديرها صندوق إنهاء الأمراض المهملة، بتوفيرالأموال للحكومات المحلية ومنظمة الصحة العالمية، بالشراكة مع شركات الأدوية، بغية القضاء على العمى النهري وداء الفيلاريات اللمفاوي في كل من مالي والسنغال والنيجر وتشاد والسودان وإثيوبيا واليمن.
وعلى الرغم من أنه سيكون هناك بعض التقاطعات أو التداخل في المهام بين 'غلايد' وصندوق بلوغ الميل الأخير، إلا أنهما مشروعان مختلفان، كما أن تمويل 'غلايد' منفصل واستراتيجياته مختلفة.
"لا يقتصر التزامنا بإنهاء الأمراض المدارية المهملة على مجرد القضاء عليها. فمن خلال إزالة العوائق التي تفرضها تلك الأمراض، يكون بمقدورنا المساعدة في الحدّ من الفقر وتغيير حياة أجيال بأكملها"، هكذا تحدث محمد مبارك المزروعي، وكيل ديوان ولي عهد أبوظبي، في كلمة ألقاها احتفالاً بتكريس يوم عالمي للقضاء على الأمراض المدارية المهملة في 30 يناير الماضي، وهي مبادرة تمت بتمويل من صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان.
تزامن إطلاق المعهد العالمي للقضاء على الأمراض المعدية مع لحظة محورية في جهود القضاء على الأمراض المدارية المهملة، حيث تعمل العديد من الدول على تبني خارطة طريق جديدة حولها للعام 2030. وكان من المقرر أن يتم التوقيع على هذا المخطط في قمة رفيعة المستوى عشية اجتماع رؤساء حكومات دول الكومنولث في العاصمة الرواندية كيغالي خلال شهر يونيو، ولكن يتم التباحث حالياً حول عقد القمة افتراضياً بسبب تفشي جائحة كوفيد-19، أو تأجيلها إلى أوائل العام المقبل.
وسوف تشكل خارطة الطريق الجديدة ملامح السياسة العالمية تجاه الأمراض المدارية المهملة، بهدف مواءمة الجهود تحت مظلة الأهداف الصحية والاجتماعية الأوسع نطاقاً والمنصوص عليها في أهداف التنمية المستدامة للأمم المتحدة (SDGs) لعام 2030. ومن المقرر أن تطلق منظمة الصحة العالمية هذا العام مجموعة جديدة من الأهداف المتعلقة بالأمراض المدارية المهملة حتى يتسنى إدارة مراحل التقدم وتوجيه مسارات العلاج.
ولا ينفي بلاند أن التقدم الذي تم إحرازه بجهود كبيرة نحو القضاء على الأمراض المدارية المهملة والملاريا وشلل الأطفال معرض لخطر الانتكاسة بسبب تحول كل الجهود والتمويل في الوقت الراهن إلى التصدي لجائحة فيروس كورونا المستجد كوفيد-19. لكنه أيضاً يعتقد أن هذه الجائحة تعد دليلاً قوياً على الحاجة إلى دعم النظم الصحية الضعيفة وتحسين مستويات الرقابة في الدول الأشد عرضة لخطر تلك الأمراض.
"بمقدور أبوظبي أن تقوم بدور قوي وفاعل، وينصب تركيزنا على اجتياز 'الميل الأخير' في رحلة القضاء على الأمراض".
سايمون بلاند، الرئيس التنفيذي لمعهد 'غلايد'.
وسوف تقدم برامج 'غلايد' خلال المرحلة الأولى دعماً استراتيجياً وتقنياً للحكومات الأفريقية لمساعدتها في تنسيق جهود القضاء على العمى النهري. وقد يتنوع ذلك الدعم من الأعمال البسيطة كمساعدة أفراد فريق العمل التقني على الاجتماع، أو قد يكون معقداً مثل المساعدة في إتمام الدراسات في المناطق النائية التي يصعب الوصول إليها أو المناطق الحدودية حيث يعوق نقص البيانات جهود القضاء على المرض. وقد بدأ العمل بالفعل في أحد هذه المشاريع في مالاوي.
ومن المرجح أن تشمل المبادرات الأخرى نقل تجارب أربع دول من الأمريكتين نجحت في القضاء على مرض العمى النهري إلى الدول الأفريقية، أو تعزيز برامج مكافحة الملاريا في منطقة الساحل الأفريقي في محاولة لتخفيف العبء الذي يفرضه هذا المرض على أنظمة الصحة العامة.
ويقول بلاند، وهو العضو السابق في مجلس إدارة الصندوق العالمي لمكافحة الإيدز والسل والملاريا: "لا نصف أنفسنا بأننا سنكون مؤسسة تمويل كبيرة، بل نسعى إلى دعم الأبحاث والأنشطة التشغيلية التي تسرع تحقيق التقدم، وتمهد السبل للتعلُم من تجارب الآخرين". ويضيف: "سيتمثل دورنا في جمع الأطراف ذات الصلة، وتسهيل عملية التعلُم، بالإضافة إلى توليد المعرفة. وسيعتمد نهجنا في الأساس على الاستماع إلى وجهة النظر المحلية والاستفادة من تلك الآراء في توجيه المشروع. فنحن لا نريد أن نفرض أفكاراً أو استراتيجيات خارجية، بل دورنا هو تمكين الخبرات القائمة وتكميلها وتدعيمها".
ويستطرد بلاند في شرحه، مبيناً أن الدعم الفني من معهد 'غلايد' قد يأتي على شكل المساعدة في تصميم وتحديد تكاليف استراتيجيات القضاء على الأمراض، والمساعدة في مراقبة تطور وتفشي الأمراض وتحليل البيانات، والتركيز على كفاءة سلسلة التوريد ووفورات الحجم. كما سيحرص معهد 'غلايد' على إيجاد سبل تحقيق التكامل بين برامج الاستجابة المختلفة - من خلال مشاركة بيانات الرصد وترسيم الخرائط، على سبيل المثال - وتعزيز الأنظمة الصحية العامة عن طريق تخفيف الأعباء على المستشفيات فيما يتعلق بالأمراض المدارية المهملة.
ويوضح بلاند بقوله: "المسألة تتعلق بتحديد العقبات والتوصل إلى الأسئلة التي ينبغي علينا طرحها للمساهمة في تجاوز تلك العقبات. ولا تقتصر فوائد توفير تغطية صحية شاملة ومراقبة جيدة وإحاطة بكيفية الوقاية من الأمراض المعدية والتعامل معها على صالح المجتمعات المحلية فحسب. إن الأمر يتعلق بما فيه صالحنا جميعاً. وربما يكون أهم مثال يدعم هذه الحقيقة هو في سياق جائحة كوفيد-19".
كما سوف يكون هناك تركيز على التوعية والتعريف بخطورة الأمراض المدارية المهملة، من خلال الضغط لأجل اعتماد إرشادات عالمية أكثر وضوحاً تساعد المجتمعات على فهم تلك الأمراض وإدارة استجابتها لها بشكل أفضل، مع توفير الدعم للباحثين.
ويقول بلاند: "نرغب في إيجاد سبيل للمساعدة في بناء الكفاءات. فهناك الكثير من المتخصصين في هذه النوعية من الأمراض، وآخرون يديرون برامج منذ عقود، وهم بمثابة نبع خبرة علينا أن ننهل منه".
وتجري 'غلايد' حالياً محادثات مع كلية لندن للصحة والطب الاستوائي وجامعة نيويورك في أبوظبي بشأن "السبل التي يمكننا من خلالها بناء هذه الكفاءات ومن ثم تركيزها على تلك الأمراض المهملة،" حسب ما يقول بلاند - الذي يشدد على أهمية بناء الكفاءات المحلية بدلاً من الاستعانة بخبراء من خارج تلك الدول. ولا توجد خطط حالية لتنفيذ أنشطة البحوث والتطوير في أبوظبي.
ويعقب بلاند بقوله: "مهمتنا كمعهد ليست في التواجد وتنفيذ ما هو مطلوب على الأرض، كما أننا لسنا بوارد البحث عن علاجات جديدة. إن عقبات الدخول ومخاطر الفشل عالية للغاية، وهي بصراحة ليست تخصصنا. دورنا الأهم هو التوعية والتعريف والتنشيط وتشجيع الأبحاث العملية والابتكار".
ويؤكد بلاند بقوله: "ليس هناك من نصر سريع في هذا الميدان. ولا أعتقد أن النجاح ثمرة يسهل قطفها. نحن أمام أمراض بقيت مهملة لسبب لا نعرفه، وصِفة الإهمال لن تنتفي عنها بغتة لمجرد أن أحدهم قرر القيام بشيء ما تجاهها. ولكنني أعتقد أن هناك مداخل واضحة ومساراتٍ يمكننا المشاركة والإسهام فيها وبالتالي إحداث الفارق. وأنا متحمس لذلك جداً".
ويعتبر بلاند تأسيس معهد 'غلايد' فرصة سانحة لعولمة جهود الصحة العامة وبناء الكفاءات في المنطقة بالدرجة التي تحدث تأثيراً في جميع أنحاء العالم. ويختتم قائلاً: "ليس من المطلوب أن يبقى منطلق جهود الصحة العالمية من جنيف أو لندن أو أتلانتا أو نيويورك أو سياتل. بمقدور أبوظبي أن تنهض بدور قوي وفاعل في هذا الصدد، وكل تركيزنا على اجتياز هذا الميل الأخير في رحلة القضاء على تلك الأمراض".