بناءُ إرثٍ خالد للأجيال القادمة

يقول أندرو داوست أن المشاركة في الأعمال الخيرية من شأنها تعميق الروابط وتوطيد العلاقات بين أفراد العائلات الثرية أكثر من الثروات التي يتشاركون بها.


image title
من المقدر أن ينتقل أكثر من 3.4 تريليون دولار من الثروات العائلية إلى جيل الورثة خلال العقدين القادمين. ولذلك هناك فرصة لتوظيف هذه الثروات في عمل الخير.

قد تكون الثروة سبباً للانقسامات. فكما قال كاتب المسرحيات الأمريكي مارك توين ذات مرة: "لن تفهم حقاً أقاربك على وجه اليقين إلا إن كان بينك وبينهم إرث تتقاسمونه،" مشيراً بتلميح ذكي إلى أن الميراث المالي قد يتسبب في تصدع صروح العائلات، وبث الشحناء والبغضاء بين أفرادها. وهذا هو مبعث القلق الجديد بالنسبة لفئة صغيرة ــ لكن في تزايد مستمر ــ من العائلات الثرية في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، تلك المنطقة التي تقع الكثير من ثروات العائلات الغنية بين يدي جيلها الأول، وحيث نما عدد أصحاب المليارات بنسبة 25 بالمئة العام 2017.

وإذا ما نظرنا عن كثب سنجد أن بناء الثروات هذا غالباً ما يكون مدفوعاً برغبة إعداد العائلة، كوحدة واحدة، لإنجاب أجيال تتمتع بالغنى والوفرة والازدهار. ومع أن عدداً كبيراً جداً من هذه العائلات محترفة وبارعة فعلاً في ميدان الأعمال التجارية وخلق الثروة إلا أنها لا "تزدهر" معاً كوحدة عائلية واحدة ينعم جميع أفرادها بالمكتسبات المحققة. ولأن وحدة الأسرة هي التي تكون عادةً الوصيّ على إرث مؤسس العائلة وأصوله المالية، يتسبب انفصام الروابط بين أفراد الأسرة إلى تفتت الأصول وضياع الثروة، ويحدث ذلك غالباً في غضون ثلاثة أجيال.

ولأن هذه الظاهرة عالمية ومعروفة تماماً، وضعت لها المجتمعات في جميع أنحاء العالم كلمة خاصة بها تعبّر عنها. ففي الولايات المتحدة الأمريكية، يشيرون إلى هذا المفهوم بقولهم "بدأت الأسرة بقميص العمل وعادت إلى قميص العمل" في ثلاثة أجيال؛ أو في انكلترا بقولهم "بدأت الأسرة بقباقيب وانتهت إلى قباقيب"، وكلاهما يشيران إلى تواضع اللباس المرتدى كناية على رجوع الوضع المالي إلى ما كان عليه. أما في اليابان فلديهم المثل الذي يقول أن "الجيل الثالث يخرّب البيت"، في حين يقال في الصين مثل يعبّر مباشرة عن الموضوع بقولهم "لا تدوم الثروة لثلاثة أجيال". لا بد أن الصورة قد اتضحت الآن.

تضيع الثروة لأن العائلة تفشل في الحفاظ عليها، وتضيع معها أيضاً القيم المشتركة والهدف العام الذي ضافر الجهود لخلق الثروة في الأساس. ومكمن الخلل هنا هو ضعف وتهلهل الروابط العائلية، لا سوء التخطيط المالي. إذاً ما الذي ينبغي على العائلات الثرية فعله لتجنب حلول لعنة "الأجيال الثلاثة" عليها؟ كيف ينبغي على العائلات الثرية الكبيرة التصرف لتجنب النزاعات والصراعات، ولضمان استمرارية الرخاء والازدهار على مرّ الأجيال، وبناء إرث شامخ مجيد ذو معنى عميق؟ وإلى أي مدى يشكل قطاع الأعمال الخيرية عنصراً استراتيجياً لتحقيق هذا الهدف؟

إيجاد قضية مشتركة

لا تعتبر الثروة بحد ذاتها "قوة موحِدة" في العائلة. وهذا ما يصدق أكثر عند انتقال الأصول المالية من الجيل الأول إلى الجيل التالي، الذي يعدّ جيلاً نشأ أفراده في النعمة وتفيؤوا ظلال الوفرة. ذلك أن العائلات الثرية نادراً ما تستند في تحركاتها على المعايير المالية لوحدها: بل يتحرك العديد من أفرادها بدافع الشعور بالمسؤولية تجاه مجتمعاتهم المحلية وشعوبهم (على نطاق أوسع)، ويرون أن الغرض من الثروة هو تمكين الآخرين من تحسين حياتهم والارتقاء بها، وليس التنعم بها لوحدهم.

وهنا تبرز أهمية العمل الخيري كونه يوفر وسيلة تنافس شريف بين أفراد العائلة الثرية بحيث يحشدهم حول هدف واحد ويرسخ القيم المشتركة بينهم. بهذا الصدد، يوضح العمل الخيري للأفراد الشباب من هذه العائلات الثرية أن الثروة والغنى ليست "هوية" للفرد، بل هي "وسيلة" يمكن استخدامها لجعل العالم مكاناً أفضل. على الصعيد العمليّ، يتيح العمل الخيري لهؤلاء الأفراد الشباب من العائلة فرصة المشاركة في الوصاية الطويلة الأجل على الأصول المالية للعائلة، مما يجعلهم يضعون حجر الأساس مبكراً لتعلم فعل ذلك بكفاءة عالية وخلق تأثير إيجابي مستدام. إذاً جِد هدفاً أسمى لعائلتك ليحتشد أفرادها حوله. وبعض الأمثلة على ذلك: التصديّ لمشكلة الاتجار بالبشر، ودعم ورعاية اللاجئين. ولا تنسى أن تسخير ثروتك من أجل عمل الخير، يرتقي بحياتك لمستوى آخر تماماً.

بناء الشخصية أولاً، ثم الكفاءة

على مستوى العالم، نقف حالياً على مشارف انتقال عظيم للثروات. فوفق تقرير أصدره مصرف "يو بي إس" مؤخراً، من المتوقع انتقال ثروة ما يقارب 40 بالمئة من ثروات أصحاب المليارات حالياً، والمقدرة بنحو 3.4 تريليون دولار، إلى الجيل التالي من الورثة في غضون عقدين من الزمان. بهذا الصدد، تعتمد العائلات ذات الثروات الكبيرة على وجه خاص، والمجتمع الأوسع بشكل عام، على قدرتهما على استخدام نفوذهما ورؤوس أموالهما بحكمة.

وأهم صفة تميز القيادة القوية والنشطة للعائلة هي التمتع بشخصية سليمة، والتي تتشكل بطبيعة الحال منذ الطفولة وعلى مر السنين من خلال تجارب الحياة. لذلك ينبغي عليك أن تعلّم أطفالك منذ سن صغيرة قِيم عائلتك وقصتها "من نحن؟، كيف وصلنا إلى ما نحن عليه الآن" وتعلمهم كذلك ما هو الخير وما هو الشرّ. وتوجههم نحو الفرص التي توفر تجربة عملية. بعد ذلك، امنحهم مبالغ مالية صغيرة من رأس المال كي يديروها فيما يتعلق بالتبرع للقطاع الخيري والاستثمار التجاري، وأفسح لهم المجال كي يتعلموا من أخطائهم. ووفّر لهم بيئة تتميز بالحرية لكي يكتشفوا المواهب والمزايا الذاتية لهم ومواطن شغفهم ولاكتشاف أنفسهم حقاً، خارج ما تتوقع منهم العائلة.

لا تخشى من التجريب العقلاني حتى تجد ما يلائم عائلتك بالضبط. على سبيل المثال، تبني نظام عمل ما، اتباع حمية معينة، اختيار دورات تعليمية وفترات تدريب لدى شركات أخرى. ولقد علمتُ في الآونة الأخيرة أن شيخاً لعائلة خليجية أخذ ابنه الأكبر في رحلة إلى الصحراء، حيث تركه تحت رعاية قبيلة لعدّة أشهر. هكذا اكتسب ابنه فهماً عميقاً وتقديراً عالياً لعادات وتقاليد وثقافة بلده، التي انبثقت من رحمها عائلته في نهاية المطاف.

الاتحاد قوة

تعد وحدة الأسرة هي الوصيّ على ثروتها: ولذلك لا بد أن تتمتع هذه الوحدة بالمرونة. والحفاظ على الثروة لا يعني الاكتفاء بتطبيق آليات حوكمة رسمية مثل الأعراف العائلية والهياكل الإدارية وخُطط التوريث، مع أنها عناصر لا غنى عنها. بل يعني أيضاً -وهذا الأهم- أن يقضي أفراد العائلة وقتهم معاً، وأن يتواصلوا بشكل فعّال ومستمر، وأن يمدوا جسور الثقة بين الأجيال. وهذا ما يصعب تحقيقه ويزداد صعوبة يوماً بعد آخر نظراً لازدياد عدد أفراد العائلة وانتشارهم في مختلف أنحاء العالم.

ولذلك نوصي بأن تُرسي علاقات وثيقة بين أفراد العائلة الصغيرة والكبيرة من خلال إنشاء تقاليد وأعراف عائلية خاصة، ومشاركة الخبرات بين بعضكم البعض. من بين تلك التقاليد والأعراف، على سبيل المثال، توليّ بعض العائلات الثرية إفطار الصائمين في رمضان والتبرع بالأغذية للفئات المحرومة أو التطوع والعمل في الجمعيات المحلية. يلتقي أفراد بعض العائلات الأخرى معاً لزيارة المشاريع قيد الإنجاز التي أطلقتها عائلتهم، أو يزورون مكتب أعمال العائلة من الشركات والمؤسسات. إن تعزيز مفهوم العطاء وفعله في عائلتك يعتبر أداة فعالة للغاية توطد العلاقات والروابط وتوحّد الأسرة. لذلك لا تستهن به أو تظنه مجرد حدث هامشي على قارعة العمل الأساسي.

وحّد الصفوف وفعّل المشاركة

عندما تتوصل إلى وضع هدف سامٍ واحد لأسرتك، دعه يتجلى من خلال ما تستثمر فيه. وهذا ما لا يقتصر فحسب على قطاع الأعمال الخيرية، حيث تتبرع دون توقع عائد على ما تقدمه. بل يشمل أيضاً قطاع الأعمال التجارية، حيث يمكنك أن تحقق تأثيراً اجتماعياً عظيماً وفي ذات الوقت جني عوائد مالية مجزية في حال استثمرت أموالك بفطنة وذكاء، وهذا ما تحققه بالفعل مكاتب العائلات التي تدير الثروات الأسرية بشكل متنامٍ في جميع أرجاء العالم.

تشير الإحصائيات الحالية إلى أن ثلث المكاتب العائلية تستثمر أموالها بشكل تنجر عنه آثار اجتماعية إيجابية تدعى استثمار الأثر الاجتماعي، وفق التقرير العالمي لمكاتب العائلات في سنة 2018، وما يقارب نصفها يخطط لزيادة استثماراته المستدامة في غضون العام المقبل، ويعزى جزء كبير من الفضل في هذا التوجه إلى جيل الألفية الذي تحركه الأهداف السامية من هذه العائلات الثرية، والذي شرع في إدارة بعض أصولها.

فإن لم تكن قد نظمت بعد مجموعة من أفراد أسرتك لوضع استراتيجية الأسرة في قطاع الأعمال الخيرية والإشراف على التبرعات، فسارع وقم بذلك. لأن هذا سيلمّ شمل العائلة حول هدف سام، ومن شأنه أيضاً مساعدتهم على إظهار -وتحقيق- القيم المشتركة للعائلة. وما من عجب إن عرفنا أن العائلات الأكثر اتحاداً وازدهاراً تحافظ بصورة أفضل على أصولها المالية، ولها نصيب أعلى من الحظ في اتخاذ قرارات استثمارية -وخيرية- على حد سواء تخلق إرثاً يدوم لعدة أجيال، وطبعاً لا يتوقف عند الجيل الثالث. — PA

نبذة عن الكاتب

أندرو داوست هو مؤسس شركة الاستشارات بلينيتيود بارتنرز (Plenitude Partners). وهو أيضاً الشريك المؤسس لـ"كور فنتر" (Kore Venture)، وهو برنامج غير ربحي موجه لمساعدة الشباب في العائلات ذات الثروات الكبيرة على الاستعداد لإدارة الثروة وقيادة أعمال العائلة. وقبل ذلك، شغل السيد دوست منصب نائب رئيس قسم الاستراتيجية بشركة ليغاتوم (Legatum)، وهي شركة استثمارات خاصة، تولى فيها إدارة محفظة الأعمال الخيرية التابع للشركة.


اقرأ المزيد