يسألني بعض الناس عما أنجزته لغاية اليوم، لكنني لا أعلم، ربما القليل، لكنني على الأقل قد حاولت. إذا تمكنت من الدفع بالأمور ولو لبضعة سنتمترات إلى الأمام، فهذا شيء رائع لأنه لا بد من أن الكثيرين يساهمون أيضاً بالدفع بهذا المخلوق الضخم إلى الأمام.
"المخلوق الضخم" الذي يتحدث عنه رائد العطاء محمد إبراهيم ــ أو مو إبراهيم ــ ما هو إلا عملية إعادة تشكيل الحكومات في أفريقيا، قارة مولده وشغف حياته. لقد عمل من خلال مؤسسته لأكثر من عقد من الزمن على دعم الديمقراطية والترويج لها وممارسة الضغوط للحد من الفساد في الحكومة. وبعمله هذا ساهم يرفع مستوى التوقعات والنواتج المتعلقة بالقطاع الحكومي في جزء كبير من القارة.
وتعد مؤسسة مو إبراهيم اليوم الصوت المستقل البارز حول أوضاع الحوكمة في أفريقيا، لتعبر عن الشخصية المؤثرة التي تقف وراءها. لكن سرعان ما تظهر على وجه إبراهيم معالم الاستياء والحماس معاً عند الحديث عن الوتيرة المتباطئة التي تسيطر على مسار وعجلة التغيير نحو الإصلاح والديمقراطية في أفريقيا.
ويتساءل إبراهيم، الذي ولد في السودان، قائلاً: "ليس لدينا شح في الموارد أو في الأراضي، ولا يوجد شيء يحدنا؛ فما بنا فاعلون؟" ويضيف مستشهداً بمقولة لنيلسون مانديلا: "لقد عبّر مانديلا عن هذه الفكرة بأسلوب جميل عندما قال أن أفريقيا قارة غنية، لكن شعوبها فقيرة. إنها عبارة مدهشة ذات وقع قوي كالصفعة".
بصفته المؤسس لشركة "سيلتيل"، المشغلة لشبكة الهاتف المحمول، قضى إبراهيم عقوداً يجول مختلف أنحاء قارة أفريقيا، ويتعامل خلالها مع التركيبات المعقدة للسلطة والنفوذ في كلا القطاعين العام والخاص. وقد أوصلته تجربته هذه إلى الإيمان بقيمة المؤسسات القوية وتشديده على الالتزام بالقانون ــ فضلاً عن أهمية دور قادة البلاد كملهمين ومحفزين على التنمية، لا معرقلين لها. فيقول: "الحوكمة الرشيدة تتمحور فعلياً حول المؤسسات والطريقة التي تدار من خلالها شؤون الدولة،" ويضيف: "أما القيادة فهي تتعلق بالرؤية، وبأولئك القادة النادرين القادرين حقاً على تغيير المجتمع".
وإبراهيم نفسه لا تنقصه الرؤية، ففي العام 2005 باع شركته، "سيلتيل"، بعد أن أصبحت من كبرى شركات الاتصالات في أفريقيا، ثم أطلق في العام 2006 مجموعة مبادرات تهدف إلى الحث على الحكم الرشيد ومكافئة القيادات المتقدمة. ومن أهم نتاج مساعيه في هذا المجال "مؤشر إبراهيم للحوكمة في أفريقيا"، الذي يصنف فعالية الحكومات في كل دولة في القارة. وكان قد تم تطوير المؤشر في مراحله الأولى مع كلية جون كينيدي للإدارة الحكومية التابعة لجامعة هارفرد، وهو يضم 58 معياراً لقياس الأداء الحكومي في خمسة حقول رئيسية للحوكمة.
وبما أن المعدلات التي تحصل عليها الحكومات من المؤشر تعكس مستوى أدائها في خدمة شعوبها، فالعديد منها لا يتقبل فكرة أن يعلمهم أحد علناً أن أداءهم يمكن أن يتحسن. لذا قوبلت الطبعة الأولى من المؤشر بالشكوك والتحفظات في أوساط أصحاب السلطة الأفارقة عند صدورها في العام 2006.
ظهرت ردة الفعل لدى الكثير من الحكام من خلال "لغة الجسد غير الودودة" كما يصفها إبراهيم. ويضيف: "لكن لم ينتقدنا أحدهم على إصدارنا للمؤشر بسبب عدم مقدرتهم على إيجاد أي حجة تضعنا تحت الشبهات. فجميعنا أفارقة، لا يمكن لأحد أن يتهمنا بأننا استعماريون. كما أننا نتحمل بأنفسنا تكاليف إعداد المؤشر، لذا لا يستطيع أحد أن يتهمنا بأننا عملاء للمخابرات الأميركية. وأخيراً، لا يوجد لدينا أي حافز خارجي، فليس هناك من دافع سياسي أو مالي لعملنا هذا".
ولم يكن من غير المعتاد أن يقوم بعض القادة الساخطين بالاتصال مباشرة بإبراهيم عبر الهاتف بغرض الشكوى، لكنهم كانوا دائماً يتلقون نفس الجواب، وهو "أنا لا أعدّ أو أحرر التقرير بنفسي". ويتم إعداد البيانات الخاصة بالمؤشر باستخدام الأدوات البحثية المتوفرة في المؤسسة بالإضافة إلى جمع البيانات ذات الصلة من 34 مصدراً خارجياً موثوقاً، ولا يتم إغفال أي معلومة أو رقم من البيانات ذات صلة بالمؤشر مهما كان صغيراً، كما ترفق كل البيانات بمراجعها. ويوكد إبراهيم بأنه في الوقت الذي يبقي فيه بابه مفتوحاً لاستقبال أي مسؤول يزعم بأن لديه تصحيحاً لأي رقم في المؤشر، "فإننا وعلى مدى عشر سنوات لم نحتج إلى تعديل رقم واحد".
واليوم يعتبر المؤشر معياراً مرجعياً ومحفزاً على التغيير في آن واحد. وهناك فريق برئاسة الدكتور عبدالله جانيه، وكيل الأمين العام الأسبق للجنة الأمم المتحدة الاقتصادية لأفريقيا، يتنقل بين العواصم الأفريقية ليعقد اجتماعات مع قادة الحكومات يبحث خلالها مرتبة كل دولة في المؤشر وما يمكن إجراؤه لتحسين أدائها. فبعض الجهات المانحة العالمية، مثل الوكالة الأميركية للتنمية الدولية ودائرة التنمية الدولية التابعة للمملكة المتحدة، تستعين بالمؤشر عندما تمنح مليارات الدولارات سنوياً للدول النامية. لذا، فإن تحقيق مرتبة عالية في المؤشر قد تنبئ بهبات أكبر.
ويؤكد إبراهيم بأن الدول عموماً "تدرك أننا لا نستخدم المؤشر لغرض توجيه النقد لأي حكومة من الحكومات. نحن فقط نقول لهم ’إن هذه النتائج هي حصيلة السياسات التي تتّبعونها؛ فهل أنتم راضون عنها أم هناك شيء تودون تغييره؟ وبالمناسبة، هذه النتائج هنا تبين أداء جيرانكم في نفس المجالات‘".
ويوضح إبراهيم بأن الفائدة الكامنة في هذا العمل الموضوعي "لا تتعلق بمن يعلو صوته فوق صوت الآخر، أو بأمور شخصية أو خلفيات قبلية أو دينية. هي فقط تتعلق بما يمكن إنجازه". ويضيف: "لم يعد مقبولاً اليوم أن يعتمد القادة على كتابة الخطابات الرنانة لكسب الدعم. فالأمر لم يعد له صلة بالعبارات الجميلة والقدرة على الخطابة أو الجاذبية الشخصية. زمننا اليوم هو زمن الحديث عن الحقائق والأرقام".