الجوع .. آخر الويلات

حين سئلت المديرة التنفيذية لبرنامج الأغذية العالمي إرثارين كازين عن السُبل التي يمكن من خلالها إيجاد حل لمشكلة الجوع حول العالم؟ قالت: بالكرم والإرادة الشعبية.

من بين شتى الصعاب التي واجهت اللاجئين السوريين في الشرق الأوسط وكل أشكال المعاناة التي مروا بها لم تكن مسألة إطعام أطفالهم ضمن أكبر مخاوفهم إلا مؤخراً. ففي سبتمبر أعلن برنامج الأغذية العالمي (WFP) التابع للأمم المتحدة أنه سيخفض المساعدات الغذائية للاجئين في الأردن بسبب وجود نقص في التمويل بقيمة 45 مليون دولار، ما استدعى وقف المساعدات الغذائية كلياً عن شريحة اللاجئين التي يبلغ دخل الأسرة اليومي فيها دولارين وما فوق، لتتمكن الشريحة الأكثر ضعفاً وفقراً ــ أي الأسر التي تعيش على أقل من 1.5 دولار في اليوم ــ من الاستمرار في تلقي المساعدة.

هذه الخطوة هي بمثابة فصل المحتاجين واليائسين عن الأكثر عوزاً ويأساً، وفق ما تقوله إرثارين كازين، المديرة التنفيذية لبرنامج الأغذية العالمي. فالمسألة بالنسبة لوكالة الإغاثة الإنسانية الأكبر في العالم هي الفرق بين الحياة والموت. 

وتقول كازين، بعد أن أَجرت جولة تفقدية للمنطقة دامت ثلاثة أيام: "عندما أتحدث مع اللاجئين، فإنهم يخبرونني عن اضطرارهم لإرسال أطفالهم للعمل عوضاً عن المدرسة لأنهم قلقون من عدم توفر الطعام! لكن هذه هي حقيقة الأمر، وهو الوضع الذي نواجهه. نحن بحاجة لتمويل إضافي".

يشكل برنامج الأغذية العالمي شبكة الأمان بالنسبة لملايين الأشخاص الذين يعانون من الجوع حول العالم. ففي العام 2014، أطعم البرنامج 80 مليون إنسان في 82 دولة، غالبيتهم أو ما يقارب الثلثين كانوا من الأطفال، مقدماً لهم ما يزيد عن ثلاثة ملايين طن من الأغذية على شكل وجبات مدرسية أو رزمٍ للفقراء أو مساعدات غذائية عاجلة. وتشرف الوكالة على شبكة من 20 سفينة و 70 طائرة و5,000 شاحنة تعمل على توزيع المؤن التي تحمل ختمها على مجتمعات الفقراء أو الأشخاص الذين وقعوا ضحايا للكوارث حول العالم. ويمثل برنامج الأغذية للعديد من أفقر الفئات في العالم ــ كإثيوبيا واليمن والسودان وغيرها من الدول ــ خط الدفاع النهائي الذي يفصلهم عن المجاعة. 

وتوضح كازين ذلك قائلة: "عندما ننجز عملنا على أكمل وجه في أي مكان من العالم؛ عندما تتوفر لنا الموارد المناسبة ورأس المال المطلوب، يمكننا تغيير حياة الناس ... لكن حجم المساعدة التي نقدمها يعتمد على حجم الأموال التي نتلقاها".

"نحن نتلقى التمويل بنفس المستوى الذي كان عليه أو أكثر. لكن المسألة تتلخص في أن عدد الأزمات أصبح يفوق كرم المانحين".

إن الوضع في منطقة الشرق الأوسط دائم التشنج ومُنهِك، إذ تسببت النزاعات في المنطقة بتضخم حجم الكارثة الإنسانية يوماً بعد يوم. فالاقتتال الذي دخل سنته الخامسة في سوريا دفع ما يقارب الـ 12 مليون شخص إلى النزوح من منازلهم، وانتهى الأمر بالعديد منهم في مخيمات اللاجئين المكتظة في لبنان والأردن وتركيا. وبعد أن فقدوا مصدر رزقهم وندرت فرص العمل وباتوا في حالة فقر شديد، لم يبق لهم سوى الإعانات التي تبلغ قيمتها كحد أقصى 14 دولاراً للشخص الواحد في الشهر لتوفر لهم ما يمكن شراؤه من الغذاء بهذا المبلغ الزهيد. أما الصراع الدائر في العراق فقد أدى إلى نزوح ثلاثة ملايين شخص ــ أكثر من نصفهم يعتمد على برنامج الأغذية العالمي ليؤمن قوت يومه.

والمشهد لا يقل بؤساً في اليمن، فالصراع المسلح الدائر هناك والذي توسع واشتدت حدته في الأشهر الخمس الأخيرة قد أفرغ البلاد من المؤن والمواد الغذائية، وهو يعرقل عمليات الإغاثة. إن تزامن ثلاثة أمور وهي نقص المواد الغذائية وتراجع كميات الوقود وشح مياه الشرب النقية قد خلق الآن ما قد يوصف بـ "العاصفة الكاملة" أو الوضع الأكثر تهديداً لشعب اليمن الفقير، هذا ما صرح به برنامج الأغذية العالمي في أغسطس، وما تحذر من مخاطره كازين بقولها أن المجاعة على الأبواب في حال لم يُسمح للعاملين في مجال الإغاثة بالوصول العاجل إلى المجتمعات المحلية القابعة تحت وطأة الصراع. وتشير آخر التقارير إلى أن عدد الأشخاص الذين يحتاجون إلى المؤن الغذائية بصورة عاجلة في اليمن قد بلغ 6.1 مليون شخص.

وتوضح كازين تأثير الأوضاع المتغيرة في العالم على عمل برنامج الأغذية العالمي، فتقول: "تتغير طبيعة عملنا بشكل دراماتيكي وفقاً لعدد اللاجئين في العالم اليوم، ومدى احتياجاتهم، وعدد الأزمات المرتبطة بالصراعات". وتضيف في مقابلة هاتفية أجريت معها في روما: "عند وقوع أزمة طارئة بسبب إعصار أو زلزال مثلاً، نسارع بتقديم الإغاثة ثم ننتقل إلى مرحلة التعافي. لكن في ظل الحروب لا توجد مرحلة تعافي، فذات الحدث يتكرر كل يوم".

كما هو الحال مع معظم وكالات الإغاثة، غالباً ما يتأرجح وضع برنامج الأغذية العالمي بين الاستمرار والتقهقر وفق قرارات الدول المانحة. فقد أنشأت الأمم المتحدة البرنامج الذي يعتمد كلياً على تمويل المانحين في العام 1961 كمؤسسة متعددة الجنسيات قادرة على الاستجابة السريعة لحالات تفشي الجوع وتقديم الغذاء للمحتاجين. وتمكن البرنامج عام 2014 من الحصول على تعهدات مالية كانت الأكبر في تاريخه، إذ حققت رقماً قياسياً بلغ 5.38 مليار دولار ــ 27 بالمئة أكثر مما حصل عليه العام الذي سبق ــ لكن هذا لم يكن كافياً لدرء إشكالات الحسابات المالية الصارمة. وتوضح كازين بأن المشكلة لم تحتد بسبب قصور المانحين عن العطاء لكن الأمر ببساطة يتعلقُ بتسارع الأزمات والكوارث العالمية التي أهلكت احتياطات البرنامج.

وتقول: "نحن نتلقى التمويل بنفس المستوى أو أكثر من أي وقت مضى. المانحون التقليديون لدينا هم بذات الكرم الذي اعتدنا عليه. لكن المسألة تتلخص في أن عدد الأزمات أصبح يفوق كرم المانحين". وتضيف: "ما نحن بحاجة له الآن هو أن يزيد عطاء مانحينا الحاليين، وأن يصبح لدينا عدد أكبر من المانحين الجدد لتخفيف العجز".

ويعني هذا قرع الطبول في أسواق جديدة طلباً للتمويل، كما يتطلب هذا من الدول التي بدأ نجمها يلمع ورتبتها ترتفع بين دول العالم أن تساهم بشيء من ثروتها الصاعدة. وتعد الصين خير مثال على ذلك، فقد انتقلت من كونها دولة تتلقى المساعدات من برنامج الأغذية العالمي إلى دولة مانحة.

وتؤكد كازين قائلة: "لا يكفي أن تقدم الولايات المتحدة أو المملكة المتحدة أو أستراليا أو اليابان الدعم المالي. نحن بحاجة لمانحين جدد ينظرون إلى أهدافنا كجزء من أهدافهم أيضاً". وتضيف: "نريد أن يدرك المانحون حول العالم، وليس فقط في المجتمعات الغربية، أننا نمثل المبادئ الإنسانية العالمية".

وهنا يبرز السؤال، فيما إذا كان قد حان الوقت لنظام الإغاثة بمجمله، والذي يعتمد بشكل أساسي على مناشدات الإغاثة العاجلة للحفاظ على استمرارية سلاسل التوريد، أن يتطور ليعكس واقع الحال اليوم وهو أن الوضع في سوريا أو اليمن أو جمهورية أفريقيا الوسطى، أو أماكن أخرى، مستمر بالتفاقم وبحاجة لتمويل طويل الأمد.

وعند سؤالها إن كان النقص المتكرر بملايين الدولارات في التمويل يدل على خلل في هذه الصناعة، أجابت كازين بالنفي، قائلة: "لا أستطيع القول أن هناك خلل؛ النظام يعمل، لكن الحقيقة هي أنه بحاجة إلى دعم أكبر".

image title
على الرغم من التحديات على الصعيد العالمي، إلا أن كازين تعتقد أنه لا يزال بإمكاننا القضاء على الجوع. الصورة: غيتي إميجيز.

إذاً كيف يمكن حل مشكلة مثل مشكلة الجوع في العالم؟ شغل هذا السؤال فكر كازين ــ التي ولدت في ولاية شيكاغو الأميركية ــ منذ أن تقلدت مهام برنامج الأغذية العالمي عام 2012. فقد ابتدأ عهدها بتوالي الكوارث التي أثقلت كاهل البرنامج؛ من تفشي وباء الإيبولا في غرب أفريقيا، إلى التعامل مع آثار الإعصار الكبير الذي ضرب الفلبين، ثم أكبر أزمة لاجئين واجهها العالم منذ عقود، بالإضافة إلى الأزمة المزمنة في جنوب السودان وجمهورية أفريقيا الوسطى، وغيرها من المشاكل العاجلة. وفي كل يوم من الأيام يكافح العاملون في البرنامج على عدة جبهات في نفس الوقت.

وعلى ضوء هذه الكوارث والأزمات يبدو الهدف المعلن للبرنامج بالوصول إلى عالم خالٍ من الجوع (zero hunger) أمراً طموحاً جداً إن لم يكن شبه مستحيل ــ لكن كازين تؤكد إنه قابل للتحقيق، فتقول: "في الواقع نحن نعلم ما الذي سيُنهي الجوع، وهذا يتطلب أداة واحدة لا نمتلكها اليوم؛ نحن بحاجة إلى الإرادة الشعبية العالمية ... الإرادة الشاملة للتعامل مع قضايا الجوع. فهي بالنهاية مشكلة يمكن حلها".

"كل ثقافة وكل دين في هذا العالم يؤمن بأن إطعام الجائعين واجب. إنه الحد الأدنى لإنسانيتنا، يجب ألا يُترك الناس جائعين".


 80 مليون 

عدد الأشخاص الذين تلقوا مساعدات من برنامج الأغذية العالمي في عام 2014، وشكّل الأطفال ثلثي هذا العدد.


795 مليون

عدد الأشخاص الذين يعانون من الجوع حول العالم، ما يمثل تراجعاً مقارنة بمليار شخص في العام 1990.


%81

نسبة ما يشتريه برنامج الأغذية العالمي من احتياجاته الغذائية من الأسواق النامية لدعم صغار المزارعين.




الجوع آفة تتشارك بها غالبية الدول النامية، ووجودها بمثابة قنبلة موقوتة قادرة على تفجير الانتفاضات والصراعات، كما تشكل عقبة أمام نمو الاقتصاد. وعلى مستوى العالم يوجد اليوم 800 مليون شخص لا يتناولون ما يكفي من الطعام، بينما يسبب سوء التغذية وفاة 45 بالمئة من الأطفال دون سن الخامسة. في آسيا وحدها يطال الجوع ثلثي سكان القارة، وحول العالم يقتل الجوع سنوياً أعداداً تضاهي ضحايا مرض الإيدز والملاريا والسل مجتمعة.

قليلون من هم على إحاطة أكثر من كازين بهذا الموضوع. تُحدثنا كازين عن زيارتها إلى إقليم غامبيلا الواقع غرب إثيوبيا والذي لجأ إليه آلاف المدنيين هرباً من النزاع في جنوب السودان، فتقول: صادفت هناك امرأة كانت قد مشت مع أطفالها الثلاثة وحملت رابعهم لمدة ثلاثة أسابيع كي تصل إلى المخيم. ولعدم وجود الطعام لجأت إلى إطعامهم زهور الزنبق المائي خلال الرحلة. وتتابع كازين قولها: "كنت أتكلم مع طبيب في المخيم عندما سمعت صرخة، أو بالأحرى عويلاً ... علمت أنها كانت الأم، وقتذاك قال الطبيب ‘فقدنا أحدهم، فهي لم تصل هنا بالسرعة المطلوبة’. كان الطفل رضيعاً لم يبلغ الشهرين عندما قضى نحبه. لقد فعلت تلك الأم كل ما بوسعها لإنقاذ طفلها، لكن هذا لم يكن كافياً. قصة كهذه تلازمك مدى الحياة".

وتتغير طبيعة عمل برنامج الأغذية العالمي بتغير المشهد الإنساني، واليوم ينشط البرنامج في أمور تتخطى مسألة الإغاثة الغذائية. ففي الشرق الأوسط ومناطق أخرى على سبيل المثال، أصدر البرنامج قسائم نقدية وأخرى لاستبدالها بالأغذية عوضاً عن توزيع الصدقات، وهذا أسلوب عملي أرقى يسمح للمنتفعين بشراء الأغذية ودعم الأسواق المحلية. كما يستخدم البرنامج قدرته الشرائية العالية لدعم أصحاب المزارع الصغيرة، ففي العام الماضي بلغت نسبة الأغذية التي تم شراؤها من الأسواق الناشئة 81 بالمئة.

وهناك الأنشطة التي تهدف إلى بناء القدرة على التأقلم والمرونة، مثل منح مساعدات غذائية للمستضعفين لقاء أدائهم بعض أعمال البناء أو صيانة المرافق الحيوية للمجتمع المحلي، وقد يشمل ذلك تصليح الطرقات وتشجير الغابات. لقد استفاد من هذه الأنشطة العام الماضي نحو 12.7 مليون شخص. ويُعنى البرنامج أيضاً بـ 75,000 مدرسة، وفي عام 2014 تلقى حوالي 17 مليون تلميذ أغذية على شكل وجبات أو مؤن يأخذونها إلى منازلهم. لا شك أن حجم عمليات البرنامج هائل بأي مقياس من المقاييس. 

والتحول الآخر الذي طرأ على عمليات برنامج الأغذية العالمي هو استخدام التكنولوجيا. فقد اعتمدت كازين استخدام نظام للرسائل النصية القصيرة (SMS) والمكالمات الصوتية، ما سمح للبرنامج بتقييم الحاجات الضرورية في الأماكن المنكوبة من دون الحاجة إلى إرسال فريق عمل، وهو ما أدى بدوره إلى زيادة سرعة الاستجابة وتوفير المصاريف. فعندما تضرب كارثة منطقة ما اليوم، تُرسل المؤن في فترة زمنية قصيرة، وذلك لأن البرنامج أنشأ شبكة مخازن حول العالم، من ضمنها دبي.

وتقول كازين: "إن [سد ثغرة] الجوع حاجة أساسية لكل شخص في العالم ... لطالما قُلت ذلك مراراً؛ كل ثقافة وكل دين في هذا العالم يؤمن بأن إطعام الجائعين واجب. إنه الحد الأدنى لإنسانيتنا، يجب ألا يُترك الناس جائعين".

وعلى الرغم من كل المواقف الصعبة التي تمر بها كازين بحكم منصبها، والتي قد تدعو البعض إلى اليأس، إلا أنها ما تزال تضع نُصب عينيها الفرص، وتستمر بالدفع نحو الاحتمالات الإيجابية. فخلال الـ 25 سنة الماضية، تراجع عدد الأشخاص الذين يعانون من الجوع في العالم من مليار إلى 795 مليون شخص، وانحسرت حالات سوء التغذية إلى نحو النصف. وعلى خلفية هذا الإنجاز تؤكد كازين بأن القضاء على الجوع في متناول البشرية.

وتختتم كازين المقابلة بإشراقة أمل، فتقول: "دعيني أخبرك عن أفضل شيء في عملي؛ في أي مكان أقصده، إنهم الأطفال. الأطفال يعطوننا الأمل. فبغض النظر عن صعوبة ظروفهم، عندما تعطيهم بعض الطعام لا يلبثوا أن يركضوا ويضحكوا ويلعبوا. فهم يرون أن الأمور ستكون بخير". – PA